خطب الجمـعة |
![]() |
|
136 |
بسم الله الرحمن الرحيم
عمر الخذراويتذكَّر الموت
كتبها : الشيخ
ترجمها إلى الإنجليزية : د . فهيم بوخطوة
28 جمادى الآخرة 1431
11 يـونيــو 2010
الموت أصدق غائب يُنتظر:
عباد الله يقول الله تعالى:
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ .إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ . وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ . وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ق
أيها الأخوة المؤمنون: إنها الحقيقة الحاضرة الغائبة ، فالموت أصدق غائب ينتظر وهو بين أيدينا في كل وقت في كل حين نودع قريباً أو جاراً أو صديقاً نواريه الثرى ونعود كأن لم نفعل شيئاً، اذكروا هادم اللذات، اذكروا هادم اللذات، الموت، كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((أكثروا ذكر هاذم اللذات الموت ؛ فإنه لم يذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه عليه، ولا ذكره في سعة إلا ضيقها عليه)). رواه البيهقي. أيها الأخوة المؤمنون من تدبر آيات القرآن و تمعن في أحاديث النبي العدنان صلى الله عليه وسلم فيما يختص بالموت و الترغيب في ذكره ، يجد من خلالها أنّ ذِكر الموت واجبٌ ديني على كل مسلم أن يذكر الموت ، فالموت لا علاقة له بِسنّ من السنين ، فالشاب عليه أن يذكر الموت وهو في مقتبل الحياة ، والشيخ عليه أن يذكر الموت ، والكهل عليه أن يذكر الموت لأنّ ذكر الموت عبادة ، وقد وردت أحاديث كثيرة جدا تحث على التفكر في الموت .. فالموت هو الحدَث الواقعي الذي لا بدّ منه في حياة كلّ إنسان ، فالقويّ يموت ، والضعيف يموت ، والغنيّ يموت ، والفقير يموت ، وذو الصحّة يموت ، والمريض يموت ، والظالم يموت ، والمظلوم يموت، وكلّ مخلوق يموت ، ولا يبقى إلا ذو العزّة والجبروت ، فالليل مهما طال فلا بدّ من طلوع الفجر ، والعُمْر مهما طال فلا بدّ من نزول القبر
كلّ ابن أنثى وإن طالتْ سلامته يوما على آلة حدباء محمول
فإذا حملـْتَ إلى الـقـبور جـنـازةً فاعـلَم بأنّـك بعـدها مَحمــول
الموت يقطع اللذات
الموت، هو الذي يقطع لذة الملتذين والذي يفرق بين الابن وأبيه وبين الأب وبنيه وبين الأخ وأخيه وبين الحبيب وأحبائه، اذكروا هذا الموت، اذكر أنك مهما عشت في هذه الدنيا ومهما تقلبت بين جنباتها ومهما كسبت من أموال ومهما شيدت من قصور ومهما تبوأت من مناصب ومهما قلت ومهما فعلت ستنتهي إلى الموت سيأتي يوم يقول الناس فيه فلان مات، سيأتي يوم يقول الناس عنك فلان مات، هل تذكر هذه الحقيقة؟ إنها تنتظر كل واحد منا بعد أن كان يخبر عن الموت أصبح هو خبراً يحكى،
حــكم المنية في البرية جاري ما هــذه الدنيـا بـدار قــرار
بينا يرى الإنسان فيها مخبرا حتى يرى خبراً من الأخبار
قضية الموت قضية عظيمة، على الناس أن يتذكروها تذكر الموت ولا تنسه أبداً فإنه أمر لابد منه، مشكلة الناس أنهم يستبعدون الموت والموت لا يستأذن أحداً حين يأتي، لا يطلب ترخيصاً
كل امرئ مصبح في أهله والموت أدنى من شراك نعله
إنك حين تصبح الصباح قد لا يأتي عليك المساء وحينما يأتي عليك المساء قد لا يرد عليك الصباح، إن الموت يأتي بغتة ولا يدري الإنسان متى يحين أجله و لا متى يموت. أصاب بعض البادية طاعون فهرب منها أحد الشباب، وذهب إلى بلد آخر، وقال له أبوه ابق معنا يجري عليك ما يجري علينا والسنة في الإسلام أن لا يهرب الإنسان من الطاعون فقد يكون حاملاً له ويعدي آخرين، وفي الطريق نام تحت شجرة فجاءت حية فلدغته فمات، وعرف أبوه ذلك فقال:
راح يبـغي نجـوة مـن هلاك فهـلك
والمنايا راصدات للفتى حيث سلك
كل شيء قاتـل حــين تلـقى أجــلك
لا مفر من الأجل إذا جاء. اذكروا الموت، (يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون)، من ألهاه ماله وولده عن ذكر الله وحق الله ولقاء الله وحساب الله فأولئك هم الخاسرون، (وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين)، أنفق واعمل صالحاً قبل أن تأتي ساعة الموت، ساعة الاحتضار، هنالك تتصاغر حياتك ويتضاءل عمرك كله وتتمنى لو أمهلت يوماً أو بعض يوم، أو ساعة أو لحظة لو أمهلت حتى أن تصلي ركعتين لو أمهلت حتى تتصدق بما تستطيع من مال لو أمهلت حتى تقول (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر) لو أمهلت قليلاً، ولكن هيهات، يقول الله تعالى (ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون)، لن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها (إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون)، وكلمة ساعة هنا ليست هي الساعة الفلكية بمفهومنا نحن لا، الساعة بالمعنى اللغوي اللحظة لا يستأخرون ساعة أي لا يستأخرون لحظة ولا يستقدمون، هو الأجل (إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون).
الموت حق على كل الخلق:
عباد الله: إن القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد قيل وما جلاؤها قال تلاوة القرآن وذكر الموت، تذكر الموت، لم ينج من الموت أحد لا نبي مرسل ولا ملك متوج، كل أنبياء الله ورسله ماتوا وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم الذي قال الله له (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون)، (إنك ميت وإنهم ميتون، ثم إنكم يوم القيامة عند ربك تختصمون). عباد الله لو نجى أحد من الناس من ساعة الموت لنجى محمد صلى الله عليه وسلم، فهو أكرم الناس على رب الناس .. لكنه تلقى ساعة الموت برحابة صدر لأنه احسن العمل مع الله . يروي البخاري ومسلم أنه لما اُحتُضر رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع خميصة ـ قطعة قماش ـ على وجهه الشريفمن شدة الكرب و هو يقول : " لا إله إلا الله ... لا إله إلا الله ... لا إله إلا الله إن للموت لسكرات ... اللهم أعني على سكرات الموت.." مات محمد صلى الله عليه وسلم وحينما سمع الصحابة هاج هائجهم وثار ثائرهم ما كانوا يتوقعون أن يموت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في سن الثالثة والستين وقال من قال (من قال أن محمداً قد مات ضربت عنقه)، وقام أبو بكر رضي الله عنه يخطب في الناس الرجل الأول في الأمة بعد رسول الله قال: (يا أيها الناس من كان يعبد محمدا فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت) ثم تلا قول الله تعالى: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين)، الموت لم ينج منه الأنبياء ولا الأولياء ولا الصالحون (كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون)، (كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون)، (كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز)، هذا هو الفائز حقيقة، ليس الفائز من كان رصيده بالملايين أو بالمليارات ليس الفائز من بنى الدور وشيد القصور ليس الفائز من تبوأ المناصب ووصل إلى أعلى الدرجات في الدنيا.
فكم من ملك رُفعت له ... علامات فلما علا مات
الفائز حقاً من زحزح عن النار وأدخل الجنة، هذا هو الفوز الحقيقي، (فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور). نوح عليه السلام سُئل قبل موته : كيف رأيت الموت بعد هذا العمر الطويل ؟ فقال عليه السلام: رأيت كأني دخلت بيتا له بابان ... دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر. ولذلك يقول أبو العتاهية :
نح على نفسك يامسكين إن كنت تنوح ... لتموتن ولو عُمرت ما عمر نوح
روى أهل السير أن أبابكر رضي الله عنه لما احتُضر دخلت عليه ابنته عائشة فسلمت عليه وبكت طويلا ونظرت إليه . ثم قالت : صدق الشاعر يا أبتاه إذ يقول:
لعمرك ما يُغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما و ضاق بها الصدر
فالتفت إليها وقال : " كذب الشاعر و صدق الله" ( وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد) ق 19 . وهذا عبدالملك بن مروان الخليفة الأموي لما حضرته الوفاة بكى طويلا وفال: ياويلتاه ! (ماأغنى عنهم ما كانوا يكسبون) الحجر 84 . ياليتني كنت غسالا ... فبكى الناس حوله من كلامه هذا. فلما بلغ كلامه هذا سعيد بن المسيب رحمه الله قال: الحمد لله الذي جعلهم يفرون إلينا وقت الموت ولا نفر إليهم. لأنهم لا يستيقظون إلا وقت الموت و لا يتنبهون إلا في هذه الساعة. الناس في غفلة فإذا ماتوا انتبهوا. ولذلك عباد الله الذكي كل الذكي الذي يُعد لهذه الساعة و لا يغتر بالشباب ولا بالصحة.
بالعمل الصالح يعمر الإنسان بعد موته
هكذا أيها الأخوة المؤمنون لم ينج من الموت نبي مرسل ولا ولي صالح .الموت يقضي على الجميع ثم الحساب يوم الحساب، انظر إلى آثار من مضى (كم تركوا من جنات وعيون، وزروع ومقام كريم، ونعمة كانوا فيها فاكهين، كذلك وأورثناها قوماً آخرين، فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين)، لم تبك عليهم السماء ولا أهلها ولا الأرض ولا أهلها، استراح الناس من شرورهم وفجورهم وباءوا بلعنة الله والناس والملائكة. الذي يبكي عليه الناس هو الذي يكون خيره للناس، هو الذي يذكر الناس منه قوله الطيب وعمله الصالح، وخلقه الكريم، وآثاره الحسنة في الأرض، يذكره الناس بذلك، يستطيع الإنسان أن يعيش بعد موته سنين طويلة، يستطيع أن يعمر بعد عمره أعماراً إذا ترك وراءه سيرة طيبة وذكراً حسناً، رحم الله أمير الشعراء شوقي حين قال
دقات قلب المرء قائلـة لــه إن الحياة دقائق وثـوان
فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها فالذكر للإنسان عمر ثـان
ارفع لنفسك ذكرها بعمل الصالحات واجتناب السيئات واستباق الخيرات، يقول صلى الله عليه وسلم : " إذا مات بن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية أو علم يُنتفع به أو ولد صالح يدعو له". هذا هو الباقي لك عند الله تعالى.
الموت لم يترك أحدا. حينما جاء مرض الموت إلى هارون الرشيد أعظم ملوك الدنيا في وقته الذي كان يتحدى السحاب في السماء، جاءت سحابة فوق بغداد ثم مضت فيقول لها أيتها السحابة شرقي وغربي وأمطري حيث شئت فسيأتيني خراجك. تمطري في بلاد المسلمين ستأتيني الزكاة من بلاد المسلمين، تمطري في بلاد الكافرين يأتي خراجك إلى بيت مال المسلمين، هذا الرشيد حينما مرض وفحص الأطباء بوله، أعطاهم بوله ليفحصوه ضمن جملة أبوال حتى لا يعرفوا بول من هو، فلما فحصه الأطباء قالوا: صاحب هذا البول في أيامه الأخيرة، فأنشد يقول:
إن الطبـيب له علـم يجـل بـه ما دام في أجل الإنسان تأخير
حتى إذا ما انتهت أيام مهلته حار الطبيب وخانته العقاقيـر
الطبيب لا يستطيع أن يؤجل موتك أو يؤخر أجلك، حار الطبيب إذا كان الداء من السماء بطل الدواء وعجز الأطباء، وكان يعالج الرشيد سكرات الموت وهو يقول (ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانية)، الملك العريض الذي كان أعظم ملك في الدنيا في ذلك الوقت انتهى، لا مال ينفع ولا سلطان يشفع، (ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانية)، وابنه الذي ورثه عبدالله المأمون الذي بلغت الدولة ما بلغت في عهده من العز والعلم والحضارة والسبق على أمم الأرض حينما جاءه الموت كان يقول يا من لا يزول ملكه ارحم من زال ملكه ، يا من لا يزول ملكه ارحم من زال ملكه، هل يتذكر هذا ملوك الأرض؟ هل يتذكر هذا. الرؤساء والأمراء هل يتذكر هذا الأغنياء والكبراء، إن الموت آت لا ريب فيه. أيها الأخوة لابد أن نضع الموت نصب أعيننا أن نتذكر هذه الحقيقة الكبيرة الماثلة أمام أعيننا في كل وقت و في كل حين حتى لا نُكتب من الغافلين.