خطب الجمـعة |
![]() |
|
07 |
|
بسم الله الرحمن الرحيم
عذاب القبر
كتبها: الشيخ
ترجمها إلى الإنجليزية : د . فهيم بوخطوة
نصل اليوم في هذه المحطات من رحلة الإنسان إلى الدار الآخرة الى محطة القبر، فقد وقفنا في الخطبة الماضية عند خروج الروح كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ ٱلتَّرَاقِىَ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ ٱلْفِرَاقُ وَٱلْتَفَّتِ ٱلسَّاقُ بِٱلسَّاقِ [القيامة:29-26].
وبخروج الروح وسحب تيار الحياة منك تصبح أيها الإنسان مادة أرضية قابلة للتعفن والتحلل، لهذا يسعى أقرب الناس إليك ومن كان يقبلك ويعانقك والذي إذا أحسست بوجع بسيط في الرأس أو في المعدة هرع بك إلى الطبيب أو أحضر لك الدواء ـ يسعى هذا الحبيب ويُجدُّ مسرعاً في أمر دفنك في الأرض وإهالة التراب عليك، لأنك بهذه الحالة لا يطيق البقاء بقربك أحد، ولن يتحملك بحالتك هذه إلا رحم الأرض التي خلقت منها، لهذا تعاد إليها.
والقبر أيها المسلم سكن موحش ضيق تنتقل إليه من السكن الرحب الواسع أو من القصر الفسيح الذي كنت تقيم فيه، القبر مكان تفترش فيه التراب وتصاحب فيه الديدان والدواب، ولا يسمح لك في هذا السكن أن تصطحب معك شيئاً إلا القماش الذي يلفك ويستر عورتك، هذا هو القبر، وهو سكن لا يدوم، بل هو مرحلة برزخية بين الموت والبعث يقول سبحانه: وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:100].
حفرة مخيفة، تجد نفسك في ليلة من الليالي ممدداً فيها لوحدك، لا أب ولا أم ولا أخ ولا أخت ولا صديق ولا أنيس، وليتصور الواحد منا الفرق بين ليلتين، ليلة هو فيها بين أهله وأبنائه يلاعبهم ويداعبهم، وفي الليلة التي تليها هو طريح القبر، بيت الدود والظلمة، والذي لا يدري ما يكون حاله فيه هل هو من المنعمين أم من المعذبين؟ والواحد منا يا عباد الله إذا غيَّر مكان نومه في بيته أصابه الأرق والسهاد فكيف بالقبر.
فارَقْتُ موضعَ مَرْقَدي ليـلاً ففارقَنـي السكـونُ
وفي القبر تبدأ الفتن العظيمة والامتحانات العصيبة التي يتمايز فيها الناس: فريق مفلح وفريق خائب، لهذا نظر الصالحون إلى القبر نظرة خوف ونظرة وجل، أخرج الترمذي عن البراء أنه قال "كنا مع رسول الله في جنازة، فجلس على شفير القبر فبكى حتى بلّ الثرى ثم قال: ((يا إخواني لمثل هذا فأعدوا))، وأخرج ابن ماجه عن هاني مولى عثمان قال: "كان عثمان بن عفان إذا وقف على قبر يبكي حتى يبُل لحيته فقيل له: تذكر الجنة والنار ولا تبكي، وتبكي من هذا! قال: إن رسول الله قال: ((إن القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا منه فما
بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه))، هنا تكمن خطورة القبر ـ إخوة الإيمان ـ فهو مؤشر لما بعده.والجنازة وهي تحمل على الأعناق إلى المقبرة هي إما تُقدَّم إلى خير وإما تُقدَّم إلى شر أخرج أحمد عن أبي سعيد أن رسول الله قال: ((إذا وضعت الجنازة واحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدموني، وإن كانت غير صالحة قالت لأهلها: يا ويلها أين تذهبون بها؟ يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان لصعق))، وهذا كله لا يغني عن الميت شيئاً لأنه قد كان ما كان، وفات على الندم الأوان.
والقبر ـ عباد الله ـ مكان عجيب، ففيه تطرح ثلاثة أسئلة سهلة، ولكنها من السهل الممتنع، فقد يجيب عنها الكناس والجزار، ولا يجيب عنها المهندس والدكتور، لأن القبر لا يعترف بالشهادات والمناصب والمراكز التي نتباهى بها في الحياة الدنيا، بل يعترف بعملة واحدة غير مزيفة، هي عملة العمل الصالح الخالص من كل شائبة والموافق لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فمن دخل القبر ومعه هذه العملة أجاب عن الأسئلة الثلاثة التي يطرحها الملكان في القبر مهما كان أميَّاً وجاهلاً في هذه الدنيا، ومن لم يصطحب معه هذه العملة تلعثم وارتبك ووقف كما يقف حمار الشيخ في العقبة، ولو كان حاملاً في هذه الدنيا أعلى الشهادات، يقول في الحديث الذي أوردنا جزءاً منه في الخطبة السابقة ونكمل باقيه الآن يقول عن روح المؤمن بعد أن ينتزعها ملك الموت وتصل بها الملائكة إلى السماء السابعة: ((يقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوا عبدي إلى الأرض، فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم و منها أخرجهم تارة أخرى; فتعاد روحه، فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله. فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام. فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله. فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت، فينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له باباً إلى الجنة، فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له في قبره مد بصره، ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح فيقول: أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير فيقول: أنا عملك الصالح فيقول: رب أقم الساعة رب أقم الساعة، حتى أرجع إلى أهلي ومالي)).
أما روح العبد الكافر فتمنع من الصعود إلى السماء كما أوردنا في الخطبة السابقة: ((فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى فتطرح روحه طرحاً، فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه، لا أدري فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فينادي مناد من السماء أن كذب عبدي، فأفرشوه من النار، وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول: أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد فيقول: من أنت فوجهك الوجه يجيء بالشر، فيقول: أنا عملك الخبيث فيقول: رب لا تقم الساعة)) رواه أحمد عن البراء. وفي رواية أخرى أنه ((يضرب بمطراق من حديد بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين))، أي يسمع صيحته كل مخلوق إلا الإنس والجن.
إذاً في القبر أسئلة يجيب عنها المؤمن ويعجز عنها الفاجر، في القبر فتنة لا يثبت أمامها إلا المؤمنون: يُثَبّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ بِٱلْقَوْلِ ٱلثَّابِتِ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَفِى ٱلآخِرَةِ وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّـٰلِمِينَ وَيَفْعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَاء [إبراهيم:27].
وفي القبر عذاب، لا خلاف في هذا، يقول سبحانه عن عذاب آل فرعون في البرزخ: ٱلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ أَدْخِلُواْ ءالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ ٱلْعَذَابِ [غافر:46]، ويقول صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه مسلم عن أنس: ((لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم عذاب القبر))، فرسول الله يخشى أننا لو سمعنا عذاب القبر ألا ندفن موتانا بعد ذلك، بل لقد علَّمنا صلى الله عليه وسلم أن نستعيذ من عذاب القبر على الأقل خمس مرات في اليوم، وكثير من الناس يهمل هذا، يقول صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير فليتعوذ بالله من أربع يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن شر فتنة المسيح الدجال)).
هذا هو القبر، موعد للمؤمن والفاسق، لا بد أن يصل إليه كل منهما، ونحن في سيرنا في هذه الحياة إنما نسير نحو القبور شئنا أم أبينا وإليها تتجه "بوصلتنا" في كل الأحوال.
أيها الإخوة الكرام، منظر القبر منظر رهيب ومخيف، ولكننا وللأسف أصبح منظر القبر لا يمثل عندنا شيئاً وذلك بسبب قسوة قلوبنا، فهاهو أفضل خلق الله الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يقولها بكل وضوح كما في الترمذي عن أبي هريرة: ((ما رأيت منظراً قط إلا والقبر أفظع منه))، فمشكلتنا أننا ننظر للقبر على أنه حفرة ذات شكل هندسي له طول وعرض وعمق، بينما هو في الحقيقة مسرح لأمور فظيعة رهيبة، لهذا لم ير رسول الله منظراً أفظع منه، بل إن القبر يبدو كأنه كائن حي فهو يضيق ويتسع وينضم على الميت حتى تختلف أضلاعه، ولقد ضم القبر صحابياً من أفضل أصحاب رسول الله هذا لصحابي هو سعد بن معاذ الذي اهتز عرش الرحمن عند موته، ومع هذا لم ينج هذا الرجل العظيم من ضمة القبر فهل تفكرنا في هذه الضمة التي لا مهرب منها، يقول عن هذا الصحابي كما في الحديث الذي أخرجه النسائي عن ابن عمر: ((هذا الذي تحرك له العرش وفتحت له أبواب السماء وشهده سبعون ألفاً من الملائكة، لقد ضمه القبر ضمة ثم فرج عنه)) ويقول في الحديث الذي أخرجه الطبراني عن ابن عباس: ((لو نجا أحد من ضمة القبر لنجا سعد بن معاذ)).
ولهذا اعلموا أن الأسباب المنجية من عذاب القبر سبعة:
1- الدعاء والتعوذ بالله منه: فلم يُعبد الله تعالى بمثل الدعاء، فهو العبادة كما قال رسول الله . إنه التذلل والخضوع والافتقار له سبحانه، فأكثروا من أن تقولوا: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ولما كان معظم الناس يتهاونون بالدعاء، وينسون التعوذ بالله من عذاب القبر، علمنا رسول الله وأمرنا أن نقول في آخر صلاتنا بعد التحية قبل السلام: ((اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال))، حتى إن بعض السلف كان يأمر من لم يقل هذا الدعاء بإعادة الصلاة.
كما علمنا رسول الله أن نقول في جملة أذكار الصباح والمساء: ((ربِّ، أعوذ بك من عذاب في النار وعذاب في القبر)).
2- اجتناب الأسباب الموجبة لعذاب القبر والتوبة إلى الله منها: ومن تلك الأسباب ترك الصلاة حتى يخرج وقتها، والافتراء والكذب على الناس، وأكل الربا، والزنا، وأذى المرأة لزوجها وجيرانها، وإتعاب المرأة زوجها بالنفقة، وإفطار يوم من رمضان لغير عذر، والغلول، والمشي بالنميمة، وترك الاستبراء من البول.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: إن ارتكاب ما هو أعظم من هذا يوجب عذاب القبر من باب أولى، قال: فالذي ينقل الأخبار ليوقع العداوة بين المسلمين وإن كان صادقاً عذِّب في قبره، فما بالك بمن يكذب في ذلك؟! فهو أشد عذاباً، ومن ترك الاستنزاه من البول الذي هو بعض واجبات الصلاة، فالذي يترك الصلاة أعظم منه عذاباً، والذي سرق شملة من المغنم وله فيها حق لأنه قاتل عذِّب في قبره، فما بالك بمن يأخذ ما ليس له فيه حق؟! إذن فليسارع العبد إلى التوبة من ذلك كله.
3- قراءة سورة الملك: أي حفظها والمبادرة إلى فهمها، فقد روى أصحاب السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((إن سورة في القرآن ثلاثون آية شفَعَت لصاحبها حتى غفر له: تَبَارَكَ ٱلَّذِى بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ )). وصح أن النبي سماها المانعة.
لذلك ثبت عن جمع من السلف أنهم كانوا يعلّمون أهليهم وأولادهم سورة الملك، ولا ينامون حتى يقرؤوها.
4- الشهادة في سبيل الله: فقد روى الترمذي وابن ماجه عن المقدام بن معدي كرب قال: قال رسول الله : ((للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويُشفَّع في سبعين من أقاربه)).
وروى النسائي أن رجلاً قال: يا رسول الله، ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟! فقال رسول الله : ((كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة)).
5- الموت مرابطاً في سبيل الله: والرباط هو الإقامة بثغور البلدان الإسلامية وحدودها لحراستها من العدو، وفضل الرباط عظيم، فقد روى مسلم عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمِن الفتّان)).
وفي سنن الترمذي عن فضالة بن عبيد أن النبي قال: ((كل ميت يختم له على عمله إلا الذي مات مرابطاً في سبيل الله، فإنه ينمَّى له عمله إلى يوم القيامة، ويأمن من فتنة القبر)).
6- الموت بداء البطن: ففي سنن الترمذي والنسائي بسند صحيح عن عبد الله بن يسار قال: كنت جالساً وسليمان بن صُرد وخالد بن عرفطة، فذكروا أن رجلاً توفي مات ببطنه، فإذا هما يشتهيان أن يكونا حضرا جنازته، فقال أحدهما للآخر: ألم يقل رسول الله : ((من قتله بطنه فلن يعذّب في قبره))؟! فقال الآخر: بلى.
7- الموت يوم الجمعة: ففي سنن أبي داود والترمذي بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو عن النبي قال: ((ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر)).
هذه ونسأل الله أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأن يجيرنا وإياكم من عذاب جهنم ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات ومن شر فتنة المسيح الدجال والحمد لله رب العالمين.
والحم
د لله رب العالمين
|