خطب الجمـعة |
![]() |
|
51 |
بسم الله الرحمن الرحيم
رمضان ـ العشر الأواخر من رمضان وليلة القدر
كتبها : الشيخ عمر علي
ترجمها إلى الإنجليزية : د . فهيم بوخطوة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين ، وعلى أهله وصحبه أجمعين : وبعد
أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى واعملوا بطاعته فقد بدأ وقت الجد والتشمير للعمل الصالح فقد دخل علينا العُشر الأخير من رمضان وكما تعلمون في فضائل هذه العشر أنها خصت من بين سائر الشهر بخصائص عظيمة، فكما فضل الله شهر رمضان على الشهور فقد جعل العشر الأخير منه أفضل لياليه وأيامها كمثل أيامه وخصها بخصائص، من بقية أيام وليالي الشهر فمن هذه الخصائص: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد بالعمل فيها أكثر من غيرها، كما روى مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره)).
ومن ذلك أنه كان يحي الليل فيها، وكان اجتهاده صلى الله عليه وسلم وإحياؤه لليالي العشر شاملا لجميع أنواع العبادة من صلاة وقراءة قرآن وذكر وصدقة واعتكاف، وكما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره، أي اعتزل نساءه، وأحيا ليله وأيقظ أهله، وكان يوقظ أهله في هذه الليالي للصلاة والذكر حرصا على اغتنام هذه الليالي المباركة بما هي جديرة به من العبادة، لا كما يفعله الناس اليوم من السهر على المسلسلات والأفلام والأغاني أو بالسهر في المقاهي على شرب الشيشة ولعب الورق فيحرموا أنفسهم خير هذه الليالي ولا يحرم خيرها إلا كل محروم.
ومن الملاحظ أن كثيرا من الناس كلما اقترب الشهر على الانتهاء يزداد تقصيره وتفريطه مخالفا بذلك سنة نبيه صلى الله عليه وسلم وما علم المسكين أن فضل الشهر في آخره.
فلا ينبغي للمؤمن العاقل أن يفوّت هذه الفرصة الثمينة على نفسه وأهله فما هي إلا ليال معدودة، ربما تكون آخر أيام وليالي في الحياة، لعل الإنسان منا أن يدرك فيها نفحة من نفحات المولى، فتكون السعادة في الدنيا والآخرة.
وإنه لمن الحرمان العظيم والخسارة الفادحة أن نرى كثيرا من المسلمين يمضون هذه الأوقات الثمينة فيما لا ينفعهم يسهرون معظم الليالي في اللهو والباطل فإذا جاء وقت القيام ناموا وفوتوا على أنفسهم خيرا كثيراً لعلهم لا يدركونه بعد عامهم هذا أبدا، وهذا من تلاعب الشيطان بهم ومكره بهم وصدهم عن سبيل الله وإغوائه لهم.
فانتبهوا يا مسلمون لهذا الأمر:
والغرض من إحياء ليالي العشر الأخير من رمضان هو تحري ليلة القدر ورجاء موافقتها ونحن في طاعة الله عز وجل حتى تغفر لنا الذنوب لما ورد في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضى الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)).
وفي المسند بإسناد صحيح: ((من قامها ابتغاءها ثم وقعت له غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر))، فمن حرم خير هذه الليلة فهو الشقي المحروم أي وربي! كيف لا؟ وقد عرف هذه الفضائل ثم ضيعها ولم يجتهد فيها ولم يتحراها، وقد ذكر الله في فضلها قوله سبحانه: (( ليلة القدر خير من ألف شهر، تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر )) . وكما ذكرنا في خطبة مضت وكما هو معلوم أن قيامها خير من ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، عملها وصيامها وقيامها.
وألف شهر تعدل: ثلاثا وثمانين سنة وثلاثة أشهر: وقد أنزل الله القرآن في هذه الليلة قال تعالى: (( إنا أنزلناه في ليلة القدر )) ، وقال أيضا: (( إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين )) فهذه الليلة مباركة وتتنزل فيها الملائكة والروح، أي يكثر تنزل الملائكة في هذه الليلة لكثرة بركتها والملائكة يتنزلون مع تنزل البركة والرحمة، كما يتنزلون عند تلاوة القرآن ويحيطون بحلق الذكر ويضعون أجنحتهم لطالب العلم بصدق تعظيما له.
والروح هو جبريل عليه السلام خصه بالذكر لشرفه.
ووصفها بأنها سلام أي سالمة لا يستطيع أن يعمل فيها سوءا أو يعمل فيها أذى كما قاله مجاهد، ويكثر فيها السلامة من العقاب والعذاب بما يقوم به العبد من طاعة الله عز وجل.
وفي هذه الليلة (( يفرق كل أمر حكيم )) أي يفصل من اللوح المحفوظ إلى الكتبة أمر السنة وما يكون فيها من الآجال والأرزاق، وما يكون فيها إلى آخرها، كل أمر محكم لا يبدل ولا يغير، وكل ذلك مما سبق علم الله تعالى به وكتابته له، ولكن يظهر للملائكة ما سيكون فيها ويأمرهم بفعل ما هو من وظيفتهم.
وكما ذكرنا أن الله يغفر لمن قامها إيمانا واحتسابا ما تقدم من ذنبه، وقد أخفى الله علمها على العباد رحمة بهم حتى يكثر عملهم في طلبها في تلك الليالي الفاضلة بالصلاة والذكر والدعاء فيزدادوا قربة من الله وثوابا وأخفاها ليتبين بذلك من كان جادا في طلبها حريصا عليها من الكسلان المتهاون، فإن من حرص على شيء جد في طلبه وهان عليه التعب في سبيل الوصول إليه والظفر به وكما قيل:
عذابـه فيـك عذب وبعده منك قرب
حسبي من الحب أني لما تحب أحب
أيها الإخوة: ليلة القدر يفتح فيها الباب ويقرب فيها الأحباب ويسمع فيها الخطاب ويرد الجواب ويكتب للعاملين فيها عظيم الأجر والثواب، فاجتهدوا رحمكم الله في طلبها فهذا أوان الطلب واحذروا من الغفلة ففي الغفلة العطب.
أيها المسلمون: ومما ينبغي أن يُعلم أن ليلة القدر تكون في أوتار العشر أوكد لحديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر))، رواه البخاري. قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله: لكن الوتر يكون باعتبار الماضي فتطلب ليلة إحدى وعشرين وليلة ثلاث وعشرين، وليلة سبع وعشرين، وليلة تسع وعشرين، ويكون باعتبار ما بقي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((التمسوها في تاسعة تبقى، لسابعة تبقى، لخامسة تبقى، لثالثة تبقى))، فعلى هذا إذا كان الشهر ثلاثين يوما يكون ذلك في ليال الأشفاع وتكون الاثنين وعشرين تاسعة تبقى وليلة أربع وعشرين سابعة تبقى وهكذا فسره أبو سعيد الخدري في الحديث الصحيح، وإن كان الشهر تسعا وعشرين، كان التاريخ الباقي كالتاريخ الماضي.
وإذا كان الأمر هكذا فينبغي أن يتحراها المؤمن في العشر الأواخر جميعه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((تحروها في العشر الأواخر)) رواه البخاري.
وهي في السبع الأواخر أكثر لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رجالا من أصحاب النبي رضى الله عنهم رأووا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر)) وفي رواية لمسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((التمسوها في العشر الأواخر فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبن على السبع البواقي)) وأقرب أوتار السبع الأواخر ليلة سبع وعشرين لحديث أبي بن كعب رضى الله عنه أنه قال: (والله إني لأعلم أي ليلة هي الليلة التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها هي ليلة سبع وعشرين) رواه مسلم. فقيل له: بأي شيء علمت ذلك؟ فقال: بالآية التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أخبرنا أن الشمس تطلع صبيحتها لا شعاع لها كأنها طسْت حتى ترتفع)).
فهذه العلامة التي رواها أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم من أشهر العلامات في الحديث .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليلة القدر سمحة، طلقة لا حارة، ولا باردة، تصبح الشمس صبيحتها ضعيفة حمراء)) رواه ابن خزيمة والبزار وسنده حسن.
ويستحب مع الصلاة والذكر وقراءة القرآن فيها الإكثار من الدعاء فقد ورد عن السيدة عائشة بنت الصديق رضي الله عنهما قالت: قلت: ((يا رسول الله أرأيت إن علمت أي ليلة هي ليلة القدر، ما أقول فيها؟ قال: قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني)) متفق عليه.
فالعفو من أسماء الله تعالى، وهو المتجاوز عن سيئات عباده الماحي لآثارها عنهم، وهو يحب العفو ويحب أن يعفو عن عباده.
قال يحي بن معاذ: لو لم يكن العفو أحب الأشياء إليه لم يبتل بالذنب، أكرم الناس عليه، يشير إلى أنه ابتلى كثيرا من أوليائه وأحبابه بشيء من الذنوب ليعاملهم بالعفو، فإنه سبحانه يحب العفو.
وفي الحديث: ((يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي))، وكان بعض المتقدمين يقول: جرمي عظيم، وعفوك كبير فاجمع بين جرمي وعفوك يا كريم.
يا كبير الذنب عفو الله من ذنبـك أكـبر أكبر الأوزار في جنب عفو الله يصغر
أيها المسلمون: لو قام المذنبون في هذه الأسحار على أقدام الانكسار وأكثروا من الابتهال والتضرع والدعاء لكان الجواب من الله الغفور الرحيم أشهدكم أني قد غفرت لكم، رياح هذه الأسحار تحمل أنين المذنبين، وأنفاس المحبين، وقصص التائبين ثم تعود برد الجواب كما ذكرنا بلا كتاب، والمحبون تطول عليهم الليالي فيعدونها عدا لانتظار ليالي العشر في كل عام حتى يقوموا فيها بما يرضى الرحمن، يا ليلة القدر للعابدين اشهدي، يا أقدام القانتين اركعي لربك، واسجدي، يا ألسنة السائلين جدي في المسألة واجتهدي.
يا رجال الليل جدوا رب داع لا يـــرد
ما يقـوم الليل إلا من له عـزم وجـد
ليلة القدر عند المحبين ليلة الحظوة بأنس مولاهم وقربه، وإنما يفرون من ليالي البعد والهجر، فيامن ضاع عمره في لا شيء، استدرك ما فاتك في ليلة القدر فإنها تحسب بالعمر.
وآخر دعوانا الحمد لله رب العالمين