خطب الجمـعة |
|
|
67 |
بسم الله الرحمن الرحيم
الصِّدق
كتبها : ش
د . يونس صالحترجمها إلى الإنجليزية: د . فهيم بوخطوة
00 / ممممممم / 0000 هـ
00 / ممممممم / 0000 م
والصَّلاة والسَّلام على أشرف المرسلين وبعد لقد تحدثنا في الجمعة الماضية والتي قبلها عن الإخلاص وكيف يحقق العبد الإخلاص في قلبه ، وليوم نتحدث عن منزلة أخرى وهي تابعة لما قبلها ألا وهي منزلة الصدق . أيها الإخوة المؤمنون والأخوات المؤمنات : يا من رضيتم بالله ربا وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً ورسولا اعلموا أن الله قد أنزل في محكم التنزيل بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) [التوبة:119].فالصدق الذي تتكلم عنه هذه الآية من سورة التوبة إنما هو مطابقة الأمر للواقع وللحقيقة، أو استواء السرائر مع الظواهر، أو استواء البواطن الخافية مع الأمور المعلنة.
فلو فتحت صدر الإنسان الصادق وأعطاك الله الإطلاع على قلبه لما وجدت هنالك اختلافاً بين الصفيحة المعلنة وبين السريرة المخبأة، وهذا حال الصادقين ، بل إن بعضهم سريرته أفضل من ظاهره، وكان السلف رضوان الله عليهم يقولون: (اللهم اجعل باطننا خيراً من ظاهرنا، واجعل ظاهرناً خيراً).
ومن نعم الله عز وجل، أن هذه القلوب تتعامل مع علام الغيوب، مع الله عز وجل، والسرائر لا تبقى مخفاة طويلاً، وهي تفترق مع الظاهر أحياناً، ولكنها لا تطيق إلا أن تتطابق بعد فترة؛ فإن كانت سريرته خيراً لابد أن يظهرها الله عز وجل، وإن كان باطنه شرّيراً لابد أن يظهره الله، وما أسرّ أحدٌ سريرة إلا أظهرها الله عز وجل على فلتات لسانه وعلى قسمات وجهه.
يستحيل أن يبقى الإنسان مخادعاً لنفسه طويلاً، لأنها فطرة فطر الله الناس عليها، فطرة الله أن تنطبق الظواهر مع البواطن، فإذا افترق خط الظاهر مع خط الباطن لفترة؛ بنفاق أو كذب أو رياء أو غير ذلك لا يستقيم هذا الحال طويلاً، لأن الفطرة قد فطرها الله عز وجل على أن لا تتقبل الباطل طويلاً، ولا تطيق المداهنة أمداً بعيداً.كل فطرة وكل قلب يحب أن يعود إلى فطرته التي فطره الله عليها.
قال تعالى: (صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة) [البقرة:138]. وفال: (فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيّم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) [الروم:30].
ومن هنا فالفطرة الحقيقية التي صبغها الله وخلقها بيده سبحانه؛ لا تطيق الزور والبهتان ولا تطيق الكذب لطويل من الزمان. وبدون الصدق لن يستقيم لنا أمر، ولن تصلب لنا قناة، ولن نستمر على ثبات، ومآلنا إلى تمزق وشتات.
ولذا فقد كان السلف رضوان الله عليهم حريصين على الحق وإن كان مراً، حريصين على الصدق وإن كان ثقيلاً، حريصين على مطابقة الظواهر مع البواطن
أحدهم تجده وهو يحرص أن يكون له أعمال بينه وبين الله عز وجل لا يطّلع عليها أحد من الناس، فإذا اكتشف الناس عباداته تجده سرعان ما يفارق مكانه ليختفي بين العوام، ن الإمام أحمد – رحمه الله – إذا مر في الشارع يسير بين الحمّالين حتى لا يشار إليه بالبنان، حتى يظنه الناس حمالاً – شيّالاً وعتّالا – فلا يشيرون إليه البنان.
إن أحدهم إذا دخل المعركة يتلثم، أو جاء بغنيمة كبرى يتلثم ثم يضعها حتى لا يعرف الناس اسمه.وكلكم تعرفون صاحب النقب يوم أن حاصر مسلمة بن عبد الملك حصنا من الحصون فترة طويلة، وذات ليلة انسلّ أحد المجاهدين وتسلق سور الحصن، ونزل على الحراس، وقتل الحارس وفتح نقباً في السور، ودخل الجيش الإسلامي، واحتل الحصن، ونادى طويلاً، نادى مسلمة طويلاً: أيكم صاحب النقب؟ فلم يتقدم إليه أحد، وذات ليلة وإذا بفارس ملثم يدخل خيمة مسلمة ويقول: أتحب أن تعرف من صاحب النقب؟ قال: نعم، قال: بشرط؛ أن لا تذكر اسمه لأحد، وبشرط أن لا تثيبه ولا تجازيه، قال: نعم، قال: أنا صاحب النقب، ولم يذكر اسمه ثم فر هارباً. فكان بعدها مسلمة كلما توجه إلى القبلة بالدعاء يقول: (اللهم احشرني مع صاحب النقب).
هذه النفوس الصادقة والنماذج الرفيعة هي التي كانت تحفظ المجتمع الإسلامي من الانهيار، يوم أن كانت الشهوات تتسلط على الأمراء وعلى الحكام؛ كان الذي يحفظ المجتمع من الانهيار، ويحفظ الأرض من الاهتزاز، ويحفظ الناس من التمزق والشتات؛ هذه النماذج الرفيعة التي بقيت طيلة المجتمع الإسلامي منبثـّة وبِنسَبٍ قد تقل أو تكثر، هذه تمثل أعمدة البقاء لهذا البنيان الذي يسمى "المجتمع المسلم". وهذه الأعمدة الإسمنتية المسلحة قد يكون عدادها أربعة ولكنها تمسك – وعلى قرونها تمسك – بنيانا ضخما قد يصل إلى مائة طابق أو يزيد أو يقل.
وكلما خلا المجتمع من الصادقين، وكلما اختفت هذه النماذج الرفيعة التي يقول عنها صلى الله عليه وسلم : ((الأخفياء الأتقياء الأبرياء))[1][2]. كلما اختفت تدريجياً من المجتمع – كلما بدأ المجتمع يتآكل وينهار ويتشتت ويتمزق.
ولذا أيها الإخوة والأخوات ؛ فليست مشكلة الإسلام اليوم سوى قلة الصادقين بين العاملين لله، سوى قلة الأخفياء الأتقياء الأبرار الذين يتصدرون لقيادة الأمم، ويتصدرون لتوجيه السفينة، فإذا أمسكت السفينة يدٌ صادقة قادتها إلى شاطئ الإسلام بشراع الأمان وبيد القوي الأمين، المجاهد الصادق الذي لا يُعرف اسمه ((الذين إذا حضروا لم يعرفوا، وإذا غابوا لم يفتقدوا))، غابت ملامح وجوههم وراء غبار المعركة، وغطى صليل السلاح وقذائف الطائرات والدبابات على مسامعهم فلا تسمع الغثاء، وليس عندهم وقت لاستماع غيبة أو تجسس أو نميمة أو ريبة، فالأمر أعظم من ذلك، الأمر جلل، الأمر أكبر من أن يلتفت إلى نقيق ضفادع أو إلى نعيب غربان، إن الأمر أعظم من ذلك.
والله عز وجل من حكمته ونعمته ورحمته، أنه يعامل الناس بما يطوون في مكنون ضمائرهم، وأنه يعاملهم بما تدخره صدورهم من سرائرهم وبما تتوجّه إليه بياتهم، وسبحان ربي! إن العقوبة من جنس العمل، هكذا علّمتنا السنة، وعلّمنا قبلها الكتاب.
قال تعالى (ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم) [الحشر:19]. وقال : (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين) [آل عمران:54]
فإياك أن تظن أن مكنون ضميرك خافٍ – إن أخفيته على الناس لفترة – خاف عن علام الغيوب الذي خلق هذه القلوب وبيده مفاتيحها سبحانه وتعالى، إياك يا أخي أن تسر سريرة لا يرضاها الله عز وجل، وإياك أن تنوي نية لا يقبلها الله عز وجل، إياك، إياك ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكم امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه))[2][5
يا أيها الأخوة:
إن أعظم الناس الذي يغيّرون المجتمعات؛ ثلاثة من البشر: العالم، والكريم، والمجاهد. هؤلاء – الثلاثة أصناف – هم محور المجتمعات، حولها تدور، وهم قاعدتها، إذ يحملون بصلابة كواهلهم كل المجتمع، فلذلك هؤلاء الثلاثة إن صدقوا، العالم، والكريم، والمجاهد، يصبح المجتمع طاهراً نقياً متماسكاً، وإن ساءت نياتهم وفسدت طوياتهم، تحول المجتمع كله إلى ركام من القمامة، لأن القلوب كالفاكهة، كالزهرة، إن كانت هذه الفاكهة نقية ناضجة فهي لا تعبق إلا عطراً، ولا تعطي إلا لذة وحلاوة، وإذا فسدت – كالفاكهة التي تفسد – لا ينبعث منها إلا الروائح الكريهة التي تزكم الأنوف وتتقزز لها الأبدان.
فإذا فسدت القلوب بدأت الروائح الكريهة التي تؤذي المجتمع كله من الفساد، والنميمة، والغيبة، والريبة، والظن السيء وغير ذلك، وهذه تحول المجتمع كله إلى مجتمع متنافر متدابر، كلٌ آخذ بأنفه حتى لا يشم الرائحة من جاره أو ممن كان بقربه.
هؤلاء الثلاثة يحذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم- في الصحيحين كما جاء في الرواية – ((أول ما تسعّر النار يوم القيامة بثلاث)) – ثلاثة أصناف من البشر ((عالم ومنفق ومجاهد))، هؤلاء أول وقود النار، العالم والمنفق والمجاهد، يا لله! مجاهد قدم دمه وبعد ذلك يكون أول وقود النار، منفق لم يبق في جيبه درهم يحيى به المجتمعات، ويسد به الحاجات ويغيث به، ويفرج الكربات، به تسعّر النار ويكون من حطبها ووقودها!!، نعم هكذا في صحيح مسلم: ((أول ما تسعر النار يوم القيامة بثلاث: عالم، ومجاهد، ومنفق كريم، أما العالم فيأتي الله به ويسأله ماذا فعلت في الدنيا؟ فيقول: تعلمت العلم في سبيلك، ونشرته ابتغاء مرضاتك، - أو كما قال صلى الله عليه وسلم فقال: كذبت تعلمت ليقال عنك عالم، وقد قيل، فأخذت أجرك في الدنيا، ثم يأمر به فيلقى في النار، ثم يؤتى بالمنفق فيقال له: ماذا فعلت في الدنيا؟ اكتسبت المال من حلال، وأنفقته في سبيلك، كذبت، أنفقت المال ليقال عنك جواد، وقد قيل، فأخذت أجرك في الدنيا، ثم يأمر به فيلقى في النار، والثالث: ماذا فعلت؟ قاتلت في سبيلك حتى قتلت، كذبت، قتلت ليقال عنك جريء، وقد قيل فأخذت أجرك في الدنيا، ثم يأمر به فيلقى في النار))[3][6].
فعندما سمع معاوية رضى الله عنه هذا الحديث من أبي هريرة بكى حتى اخضلت لحيته ثم أغمي عليه، وبعد أن أفاق قال معاوية رضى الله عنه صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون (أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون) [هود:15-16].
والحمد لله رب العالمين وإن كان لنا في العمر بقية أتممن الحديث عن مراتب الصدق .
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ، وآخر دعوانا الحمد لله رب العالمين
.
faheemfb@gmail.com فهيم أبوخـطـوة ،، البريد الإلكتروني