خطب الجمـعة |
|
|
71 |
بسم الله الرحمن الرحيم
اليقين الجزء 1 - وشهادة ألاَّ إله إلا الله
كتبها : ش د . يونس صالح
ترجمها إلى الإنجليزية: د . فهيم بوخطوة
04 / أبــريـــل / 2008 م
27 / ربيع الأوّل / 1429 هـ
الحمد لله ربّ العالمين ، الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ،
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيّئاتنا أعمالنا .
من يَهْدِه الله فلا مُضِلَّ له ، ومن يُضلل فلن تجد له وليّا مرشدا .
يأيها الناس اتــّـقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وبثَّ
منهما رجالا كثيراً ونساءَ. واتــّـقوا الله الذي تسّائلون به والأرحام ، إنَّ
الله كان عليكم رقيبا .
يأيها النّـاس اعبدوا ربكم ، إنّ زلزلةَ الساعة شيئٌ عظيم. يوم ترونها تذهل
كلُّ مرضعة عمّا أرضعت، وتضع كلَّ ذات حمل حملها، وترى النّاس سكارى ، وما هم
بسكارى ، ولكنَّ عذاب الله شديد .
يأيها الذين آمنوا ، إتقوا الله حقَّ تُقاته ولا تموتنَّ إلا وأنتم مسلمون .
واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفـرّقوا، واذكروا نعمة الله عليكم، إذ كنتم
أعداءً فألـّف بين قلوبكم ، فأصبحتم بنعمته إخوانا. وكنتم على شفا حفرة من
النّار فأنقذكم منها، كذلك يبيّن الله آياته للنّاس لعلهم يهتدون .
وأشهد أنْ لا إله إلاّ الله الملك القدّوس، السلام المؤمن المهيمن العزيز
الجبّار المتكبّر سبحان الله عمّا يُشركون .
وأشهد أن محمّداً عبده ورسوله، وصفِيُّه من خلقِهِ وخليله. أرسله بين يدَيَّ
الساعة بشيرا ونذيرا، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيرا.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه، ومَنْ سار على نهجه
إلى يوم الدِّين.
إن شئت مِن بعد الضلالة تهتدي صلِّ على الهادي البشير محمَّدِ
يا فوز مَنْ صلَّ عليه فإنَّه يهنأ ويسعد بالنعيم السَّرمدي
صلَّ عليه الله جلَّ جلاله ما غار في الآفاق نجم الفرقد
اللهم صلِّ وسلِّم عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدِّين.
أما بعد ، فإنَّ أصدق الحديث كلام الله عزَّ وجلَّ،
وخير الهدي هديُ الحبيب صلَّ الله عليه وسلَّم،
وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ مُحدثَةٍ في الدِّين بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة،
وكلَّ ضلالة في النَّار.
وما قلَّ وكفى خيرٌ مِمَّا كثُر وألهَى، وإنَّ ما توعدون لآتٍ، وما أنتم
بمعجزين.
أيُّها الأحباب ،،،
فبعد أن تكلمنا عن شرط الصدق وشرط المحبة ، نتكلم في موضوع آخر متعلق بشروط لا
إله إلا الله وبأعمال القلوب وهو موضوع عظيم جداً لمن فقهه الله تبارك وتعالى
فيه، وهو غاية العباد، التي شمر لها المجتهدون، وتنافس فيها المتنافسون، والتي
بها يتفاوت الخلق أجمعون, ألا وهو اليقين بشهادة ألا إله إلا الله , أنشده
مُصْعَب بن عبد الله بن الزُّبير لنفسه، وكان شاعراً محسناً رضي الله عنه:
أأقعدُ بعدما رجفـتْ عظامي
وكان الموتُ أقـربَ ما يَلينِي
أُجادلُ كلَّ مُعـترِضٍ خَصيمِ
وأجعـل دِينَه غَرَضـاً لِدينِي
فأتركُ ما علمـتُ لرأي غيرِي
وليـس الرأيُ كالعـلم اليقينِ
وما أنا والخصـومةُ وهي شيءٌ
يُصرَّفُ في الشَّمالِ وفي اليمين
وقد سُنَّـت لنا سُـنَنٌ قِـوام
يَلُحْنَ بكلِّ فَـجٍّ أو وَجِـين
وكان الحـقُّ ليس به خـفاءٌ
أغَـرَّ كَغُـرَّة الفَلَـقِ المـبينِ
وما عِـوضٌ لنا مِنهاجُ جَهْمٍ
بمـنهاج ابنِ آمنـةَ الأمـينِ
فأمّا ما علمتُ فقد كَفَـانِي
وأمّا ما جهلـتُ فجـنِّبونِي
أولا : علاقة العلم باليقين
فالعلم هو أساس اليقين، وأما ضده
ونقيضه فهو الشك والريب، ولهذا يقول المشركون في إيمانهم بالساعة: إِنْ نَظُنُّ
إِلَّا ظَنَّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [الجاثية:32] أي: ليسوا على يقين
وإنما هم في ظن، وهذا الظن خالطه الشك بمعنى الريب.
لأن الظن يأتي بمعنى العلم كما في
قوله تعالى: فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا [الكهف:53] وما أشبه ذلك، لكن
المقصود هنا: ما كان فيه شك، فهؤلاء هم أصحاب الشك في الآخرة: بَلِ ادَّارَكَ
عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا
عَمُونَ [النمل:66] أو في شك من الله تبارك وتعالى الذي قال: أَفِي اللَّهِ
شَكٌّ [إبراهيم:10]، تعالى عن ذلك عز وجل في أي أمر من أمور الغيب، فهذا الشك
وهذا الظن ينـزل أصحابه عن درجة اليقين بل عن درجة العلم.
ثانيا : علاقة اليقين بالإيمان .
إن اليقين كما قال عبد الله بن مسعود
رضي الله عنه فيما علقه البخاري : [[الصبر شطر الإيمان، واليقين الإيمان كله ]]،
وهذا الكلام هو من درر الكلام وغرره ، فقد جعل عبد الله رضي الله عنه الصبر شطر
الإيمان، ولكنه جعل اليقين الإيمان كله، ذلك لأن الصبر هو حالة تصاحب العابد في
عبادته، فهو يرجع إلى قول الله تبارك وتعالى في الفاتحة : إِيَّاكَ نَعْبُدُ
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] فالصبر يرجع إلى الاستعانة، فاصبر واستعن
بالله وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:45] وقال تعالى: قَالَ
مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ
يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ [الأعراف:128] إلى آخر ذلك، فيستعين العابد، ويستصحب هذا
العمل -وهو عمل قلبي عظيم- في طريقة سلوكه للصراط المستقيم، فيعبد الله تبارك
وتعالى بالصبر، ففي كل أمر يصبر على طاعة الله، ويصبر عن معصية الله، ويصبر على
أقدار الله، لكن اليقين الإيمان كله؛ لأن العبادة لا بد أن تكون عن يقين، وما
الصبر إلا ثمرة من ثمرات اليقين، فاليقين يشمل الإيمان كله، ويشمل الدين كله.
ولهذا يقول النبي صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في المسند
: {أحب الأعمال إلى الله عز وجل، إيمان لا ريب فيه أو لا شك فيه }
فهذا هو أحب عمل إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وقال بعد ذلك
{وجهاد لا غلول فيه، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة }.
ويشهد لذلك أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندما وعد من شهد أن لا إله
إلا الله بالجنة وأن يحرمه على النار، جعل ذلك مقترناً باليقين كما هو مقترن
بالإخلاص، كما في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في قصة غزوة تبوك عندما
اشتد الأمر على الصحابة رضي الله عنهم، فأرادوا أن يذبحوا جمالهم ليأكلوا منها،
فقال عمر رضي الله عنه
{يا رسول الله: لو جمعت الطعام الذي عند المسلمين ثم دعوت الله تبارك
وتعالى فيبارك الله تعالى فيه، ففعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بمشورته، فبارك الله لهم في طعامهم وتزودوا جميعاً }،
ثم قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
{أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد مستيقناً
بهما غير شاك إلا دخل الجنة }، فهذا معنى ذلك.
ففي مثل هذه الحالة -حالة اليقين- من
رأى آية من آيات الله، كما رأى الصحابة الكرام أمام أعينهم، فمن أيقن بذلك فقد
شهد أن لا إله إلا الله حقاً، فلا بد أنه في هذه الحالة قد كَمُل إيمانه، فأصبح
حقاً أن اليقين هو الإيمان كله.
وكذلك في قصة وفاة معاذ رضي الله عنه
وهي أيضاً قصة صحيحة رواها الإمام أحمد رضي الله عنه بسند ثلاثي صحيح، عن جابر
رضي الله عنه، يقول جابر رضي الله عنه :
{أنا ممن حضر معاذاً رضي الله عنه عند
موته، قال: ارفعوا عني سجف القبة -طرف القبة ليخاطب الناس- ارفعوا عني أحدثكم
حديثاً سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ما منعني أن أحدثكم
به إلا أن تتكلوا، سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: من شهد
أن لا إله إلا الله موقناً بها من قلبه دخل الجنة }، وقال في رواية:
{ حرم على النار من شهد أن لا إله إلا الله موقناً بها من قلبه }
فهكذا يبلغ اليقين في أصحابه، وهذا هو اليقين الذي يمحو كل شبهة ويمحو كل
شهوة، فيصبح الإنسان ذا قلب أجرد أزهر يتلألأ نوراً بما نوره الله تبارك
وتعالى.
ثالثا : علاقة الصبر باليقين .
إذا نظرنا إلى كلام عبد الله بن مسعود
رضي الله عنه، نجده مأخوذ من القرآن من قول الله تبارك وتعالى:
وَجَعَلْنَا
مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا
يُوقِنُونَ [السجدة:24].
فهذه هي صفات الهادين المهديين، الذين
يخرج الله تبارك وتعالى بهم العباد من الظلمات إلى النور ويقيم بهم الحجة.
فأئمة الهدى هذا شأنهم وهذه صفتهم،
ولن تجد داعية من دعاة الحق، وإمام من أئمة الهدى، إلا أعطاه الله من هاتين
الصفتين ما يشاء عز وجل: الصبر واليقين، لولا الصبر لما تحمل، ولما قاوم الابتلاء
والفتن، التي لا بد أن يتعرض لها كل من دعا إلى الله تبارك وتعالى، ولولا اليقين
أيضاً لما استمر ولما تابع، ولما كانت سيرته الاستقامة على هذا الدين والثبات،
مهما كانت العوائق ومهما كانت العقبات فهاتان الصفتان من جمعهما أوتي الإمامة في
الدين.
ولهذا يقول سفيان رحمه الله:
[[أخذوا
برأس الأمر فجعلهم رءوساء على الناس أئمة لهم ]].
ورأس الأمر وأفضله أو أعلاه -أي في
أعمال القلب- هو اليقين ومعه الصبر، فلما أخذوا من أعمال القلب ومن الطاعات
برأسها، جعلهم الله تبارك وتعالى رءوساء على الناس أئمة يدعون إلى الهدى.
فلا بد من اقتران هذين لكل من دعا إلى
الله، ولكل من جاهد في سبيل الله تبارك وتعالى ولكل من أراد أن يتقرب إلى الله
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن يعبد الله كما أراد وكما رضي وكما شرع لنا أن نعبده.
رابعا : منزلة اليقين وتجليتها عند الخليل إبراهيم عليه السلام .
واليقين بهذه المثابة وبهذا الفهم
منزلة يحبها الله تبارك وتعالى، ويريد من عباده أن يصلوها، ولهذا يقول الله عز
وجل:وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الأنعام:75]
فإبراهيم عليه السلام كان مؤمناً بدليل أنه قال في الآيات قبلها:
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً
إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأنعام:74]،
فهذه الآية في الدرجة التي قبل اليقين، فهو مؤمن، وقد حكم على أبيه وعلى
قومه بالضلال؛ لكونهم يعبدون غير الله تبارك وتعالى، لكن الله أراد أن
يزيده إيماناً بهذا، وأن يجعله من الموقنين.
وهي درجة عليا ومرتبه عظمى، فجعل الله
سبحانه وسيلة ذلك أن يريه ملكوت السماوات والأرض، فبعد أن أيقن واستيقن به ورآه
وتأمله، جزم جزماً قاطعاً أن قومه على ضلالة وتبرأ منهم، ورفع الله تبارك وتعالى
حجته عليهم، ودحض شبهاتهم، وأيقن أن الأمن والاهتداء لا يكون إلا للمؤمنين، ولا
حظَّ فيهما لأحد من المشركين.
وهذا يشابه أيضاً قول الخليل عليه
السلام عندما طلب من الله تبارك وتعالى:
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ
أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي
[البقرة:260]
فهي أيضاً زيادة ودرجة في اليقين والاطمئنان، وهذه هي حقيقة اليقين، وإذا
تأملنا أثر ذلك نجد أن اليقين الذي حصل له عليه السلام أثمر لديه يقيناً في
امتثال أمر الله تبارك وتعالى، يقيناً لا يكاد يوجد عند أحد، إلا من وفقه
الله تبارك وتعالى لمثل ذلك من رسله وأوليائه المصطفين الأخيار.
فما هو هذا اليقين الذي كان عند
الخليل؟ وما الأمر الذي أُمر به الخليل وهو بهذه الحالة -قليل من الناس من يستجيب
لهذا الأمر إذا أمر به؟
أمر بذبح
إبنه، بل ولم يأمره جبريل بقوله:
إن الله يبلغك أن تذبح ابنك، ولكن جاء أمره: إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ
أَنِّي أَذْبَحُكَ [الصافات:102]
مجرد رؤيا، فلم يقل لعلها من الشيطان أو كذا، أو أنام الليلة فإن تكررت
فعلت، ولكن اليقين جعله يمتثل، وجعل ابنه كذلك يمتثل
يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ [الصافات:102]
فقد حصل اليقين عند الأب، وكذلك حصل اليقين عند الابن، فجعله الله تبارك
وتعالى من الموقنين.
وهذه هي الدرجة التي يريدها الله
تبارك وتعالى ويحب أن يكون أنبياؤه وأولياؤه عليها.
والحمد الله رب العالمين .