Checkout

خطب الجمـعة

faheemfb@gmail.com

103

      

 

     
 

     


بسم الله الرحمن الرحيم

الإيمان بالقَدَرْ

 

كتبها: ش . يونس صالح

ترجمها: د . فهيم بوخطوة

 

26 جمادى الثانية 1430 هـ

19  يـونـيـــو 2009 م

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين

أمّا بعد: فاتقوا الله تعالى أيُّها المسلمون، واعلموا أنَّكم إليه راجعون، وعلى أعمالكم مجزيُّون، ومَن عمِلَ عملاً كساهُ الله رداءَه، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ[البقرة: 223].

أيها المسلمون ، نكمل الحديث عن أركان الإيمان وسوف نتحدث عن القضاء والقدر وذلك في محاور .

 

1- أهمية الإيمان بالقضاء والقدر.

2- معنى الإيمان بالقضاء والقدر.

3- مذهب أهل السنة والجماعة في القضاء والقدر.

4- مراتب الإيمان بالقضاء والقدر. 5- ثمار الإيمان بالقضاء والقدر.

6- القضاء والقدر لا بنافي التكليف.

 

أيها المسلمون، الإيمان بالقضاء والقَدَر ركنٌ من أركانِ الإيمان، وقاعدةُ أساسِ الإحسان، كما ورد في أعظم حديثٍ في الإسلام. القدرُ هو تقدير الله للكائناتِ حسَب ما سبَق به علمُ الله واقتضَته حكمتُه، وهو ما سبَق به العلم وجرى به القلَم مما هو كائنٌ إلى الأبَد. والإيمان به هو أن تؤمِن أن الله جلّ جلاله قدَّر مقادير الخلائق وما يكون من الأشياءِ والحوادِث قبل أن تكونَ، وعلِمَ سبحانَه أنها ستَقع في أوقاتٍ معلومة على صفات مخصوصة، فعلِمها سبحانه، وكتبها بكل تفَاصيلها ودقائِقها، وشاءَها وخلَقَها، فهي كائنةٌ لا محالةَ على التَّفصيل والدّقَّة كما شاء سبحانه، وما لم يشَأه فإنّه لا يكون، وهو قادرٌ على كلِّ شيء، فإن شاءَه وقَع، وإن لم يشَأه لم يقع، مع قدرته على إيقاعِه.

 

أيُّها المؤمِنون، القدَرُ غَيبٌ مبناه على التَّسليم، قال الله عزّ وجلّ: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا[الأحزاب: 38]، وقالَ سبحَانَه: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَر وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَر[القمر: 49، 50]، وقال جلَّ في عُلاه: وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُوم[الحجر: 21]، وفي صحيحِ مسلمٍ أنَّ النبيَّ قال: ((وإن أصابَك شيءٌ فلا تقُل: لو أني فعلتُ كان كذا وكذا، ولكن قل: قدَرُ الله وما شاء فعل)). قال ابن عباس رضي الله عنهما: (كلُّ شيء بقدَر حتى وضعُك يدَك على خدِّك).

 

أيُّها المسلمون، مذهبُ أهل السنّة والجماعة هو ما دلَّ عليه الكتاب والسنة، وكان عليه السابقون الأوَّلون من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسانٍ، وهو أنّ الله تعالى خالقُ كل شيءٍ وربُّه ومليكُه، وأنّه سبحانه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا يكون في الوجودِ شيءٌ إلا بعِلمِه ومشيئته وقُدرته، لا يمتنِع عليه شيء، بل هو قادرٌ على كل شيء، ويعلَم سبحانه ما كان وما يكون، وقد قدَّر مقاديرَ الخلائق قبلَ أن يخلقهم، قدَّر آجالَهم وأرزاقهم وأعمالهم، وكتب ذلك، وكتَب ما يصيرون إليه من سعادةٍ وشَقاوة، والعِبادُ مأمورون بما أمرَهم الله به، منهيُّون عما نهاهم عنه. ونؤمن بوعدِ الله ووعيده، ولا حجّةَ لأحد على الله في واجبٍ تركَه أو محرم فعله، بل لله الحجة البالغة، وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا[الفرقان: 2]، إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُوم فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُون[المرسلات: 22، 23].

عبادَ الله، الإيمان بالقضاءِ والقدَر يقومُ على أربعةِ أركان مرتبطة ببعضِها، لا يتمّ الإيمان إلا بتحقيقها، وهي: العلم، والكتابة، والمشيئة، والخلق.

 

فالعلم هو الإيمان بأن الله تعالى عالمٌ بكلِّ شيءٍ جملةً وتفصيلاً، أزلاً وأبدًا، فيعلَم الموجودَ والمعدوم، والممكنَ والمستحيل، لا يَعزُبُ عن عِلمه مثقالُ ذرّة في السماوات ولا في الأرض، هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ[الحشر: 22]، يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ[البقرة: 52]، وقال جلّ في علاه عن ذاته العلِيّة: وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِين[الأنعام: 59].

 

الثاني مما يشتَمِل عليه الإيمانُ بالقدر: الكتابة، وهي الإيمان بأنَّ الله كتب ما سبق به عِلمُه من مقادير الخلائقِ إلى يوم القيامة، فكلّ ما كان وما هو كائِن مكتوبٌ في اللَّوح المحفوظ في أمِّ الكتاب، قال سبحانه: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير[الحج: 70]، وقال عزَّ وجلَّ: وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِين[يس: 12]. عن عبد الله بن عمرو بن العَاص رضيَ الله عنهما قال: سمعت رسولَ الله يقول: ((كتَب الله مقاديرَ الخلائقِ قبلَ أن يخلقَ السماواتِ والأرضَ بخمسين ألفَ سنة)) رواه مسلم.

 

الأمر الثالث ـ أيها المسلمون ـ مما يشتمل عليه الإيمان بالقدر: المشيئة، وهي الإيمان بمشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكُن، وأنه لا حركةَ ولا سكون ولا هداية ولا إضلال إلاَّ بمشيئتِه جلَّ في علاه، ولا يمكن أن يقَعَ في الكون حادثٌ صَغيرٌ ولا كبيرٌ إلا بمشيئَته سبحانه، وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ[القصص: 68]، وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِين[التكوير: 29]. قال رسول الله : ((إنَّ قلوبَ بني آدَم كلّها بين إِصبعين مِن أصابعِ الرحمنِ كقَلبٍ واحدٍ يُصرِّفُه حيث يشاء)) رواه مسلم، وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيد[البقرة: 253].

 

الركن الرابع أيها المسلمون: الخلق، وذلك يقتضي الإيمان بأنَّ جميع الكائناتِ مخلوقةٌ لله بذواتها وصفاتها وحركَاتها، وبأنَّ كلَّ من سوى الله فهو مخلوق، مُوجَدٌ من العَدَم، قال الله عزَّ وجلَّ: اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ[الرعد: 16]، وعن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله : ((إنَّ الله يصنَع كلَّ صانعٍ وصنعَتَه)) أخرجه البخاريّ في "خلق أفعال العباد".

أيّها المسلمون، للإيمان بالقضاءِ والقدَر ثمراتٌ تعودُ على المؤمنِ بالنَّفع العاجل والآجِل، والعبودِيّاتِ والنفحاتِ والمنازل التي تُبلِّغُه رضا الله وجنته.

 

فأوّل ذلك أنّ المؤمنَ يُؤدِّي عِبادةً لله تعالى بِإيمانه بالقضاءِ والقدَر، وبالإذعانِ لله والتَّسليم له، كما أنه باعثٌ على الإخلاص؛ فإذا علِم العبدُ أنَّ كلَّ شيء بقدَر الله وأنَّ الملك ملكُه والخلقَ خلقُه وكلّ شيءٍ مقاليدُه بيده وأن الأمور لا تُنال إلا بتقديرِ الله وأنَّ الناس لا يملكون شيئًا لم يعُد يُبالِ بذمِّ الناس ومدحِهم في الحقّ، ولم يُسخِط الله برضا الناس، ولم يتزيَّن لهم؛ بل يزدادُ إخلاصًا وقَصدًا لله، لا تأخذه في الله لومةُ لائم، ويعلَم أنَّ كلَّ شيء واقعٌ تحتَ قهرِ الله وسلطانه محكومٌ بقدره، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ النبي قال: ((إذا سألتَ فاسألِ الله، وإذا استعَنت فاستعِن بالله، واعلم أنَّ الأمة لو اجتمعَت على أن ينفعوك بشيءٍ لم ينفَعوك إلاَّ بشيءٍ قد كتبَه الله لك، وإن اجتَمعوا على أن يضرّوك بشيء لم يضرُّوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك، رُفِعت الأقلام، وجفَّت الصحف)) رواه الترمذي بإسنادٍ صحيح.

وهذا يزيد إيمانَ المؤمن، قال الله عزّ وجلّ: مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ[التغابن: 11]، وفي قراءةٍ: يَهْدَأْ قَلْبُهُ، قال علقمة: "هو الرجل تُصيبه المصيبة، فيعلم أنها من قِبَل الله، فيُسلِّم ويرضَى". ومن رضيَ عن الله رضِيَ الله عنه، والرِّضا بابُ الله الأعظم، وجنّة الدنيا، ومُستراح العابدين، وقُرَّة عيون المشتاقين، إنه لا خروجَ للعبد عمّا قُدِّر له، فلو رضيَ باختيار الله أصابَه القدرُ وهو راضٍ محمود ومشكور ملطوفٌ به، وإلا جرى عليه القدر وهو مذموم مسخوط. وهذا يُفسِّر لك سكونَ القلب وطمأنينة النفس وراحة البال وبَرد اليقين، فترى المؤمن يستقبل المصائبَ والآلام بنفس رضيَّة ونفسٍ مطمئنة وسكينة عجيبة.

 

أيُّها المسلمون، ومِن ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر أن يمتلئَ القلبُ شَجاعةً وإقدامًا، فلن تموتَ نَفسٌ حتى تستكمِلَ رزقها وأجلَها، ولن يُصيبَ الإنسانَ إلاَّ ما كُتِب له، فعلام الخوف والقلق؟! ((واعلم أنّ ما أصابك لم يكن ليُخطِئك، وأنّ ما أخطأك لم يكن ليُصيبك)). وكذلك القناعة وعزّة النفس؛ فالرّزق لا يجلبه حرصُ حريص، ولا يمنعه حسَد حاسد، وهذا يؤدّي إلى القناعةِ والإجمالِ في الطّلَب، وإلى التحرّر من رقِّ الخَلق ومنَّتهم والحاجةِ إليهم، والاكتفاء من الدّنيا بالبلاغ، فتعلُو همَّةُ المؤمن، وتزكو نفسُه، ولا يحسُد أحدًا على عطاءٍ أعطاه الله إياه؛ لعلمه أن الله يُعطي ويمنع، ويخفِضُ ويرفع، ومن حسَد غيرَه فإنه مُعترِض على قضاءِ الله وقسْمه، أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ[النساء: 54].

 

الإيمانُ بالقضاء والقدَر يدعو للتفاؤل والإيمانِ بالنصر القادم والفرج العاجل، ((واعلم أنَّ النصر مع الصبر، وأن مع العُسر يُسرًا))، فلا يأس ولا قنوط، وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُون[يوسف: 87].

 

الإيمانُ بالقدَر يجعَل المؤمنَ صابرًا قويَّ الاحتمال، وكلّ أحدٍ لا بدَّ له من الصّبر، فهو من جميل الخِلال ومحمود الخِصال، ومن سمات الرجال، ومن لم يصبر صبرَ الكرام سلا سُلُوَّ البهائم. قال عمر رضي الله عنه: (وجَدنا خير عيشنا بالصبر)؛ لذا تجِد المؤمنَ بالقدرِ صبورًا مُتجلِّدًا، يتحمَّل المشاقّ، ويتجاوَز المصاعِب والآلام، بخلافِ ضعيفِ الإيمان الذي لا يقوَى على الاحتمالِ، ولا يقدِر على ما يعترِضه، فيجزَع لأتفه الأسباب؛ بل ربما أدَّى به الجَزَع إلى الوساوِس والأمراضِ النفسيّة، والهرب إلى المُخدّرات، والانتحار، ولو آمَن بالقضاء والقدر لرأيتَ قوّة الرجاء وإحسانَ الظن بالله، فإنَّ الله تعالى لا يقضِي قضاءً إلاَّ وفيه تمامُ العدل وكمال الرحمة والحكمة، فلا يتَّهمُ ربَّه فيما يُجرِي عليه مِن أقضيَته وأقداره، وذلك يُوجِبُ له استواءَ الحالات عنده، ورضاه بما يختاره له سيّده، وينتظر الفرجَ ويترقَّبه، بل يُخفِّف ذلك من حمل المشقّة، لا سيّما مع قوة الرّجاء، فإن في حشو البلاء من رَوح الفرج ونسيمه وراحته ما هو خفيُّ الألطاف، بل هو فرجٌ مُعجَّل.

 

والتأمُّل في قدَر الله يكشِف للإنسانِ حكمةَ الله فيما يُقدِّرُه من خيرٍ أو شر، وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُون[البقرة: 216]، فيُفوِّضُ العبدُ أمرَه إلى مَن يَعلَم عواقبَ الأمور.

 

أيها المسلمون، ومِن آثار الإيمانِ بالقضاء والقدر التوكلُ على الله، وهو نِصف الدين ولبُّ العبادة. والتوكل هو توجُّه القلب إلى الله واستمدادُ المعونةِ منه والاعتمادُ عليه وَحدَه بعد بَذلِ السبب. التوكل يعني الثقةَ بالله والطمأنينة به والسكون إليه، وهو التعلُّق بالله في كلّ حال، وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ[الفرقان: 58]، وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ[الطلاق: 3]. التوكل لا يعني تركَ الأسباب، بل يعني عَدمَ تعلُّق القلبِ بها، فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ[آل عمران: 159].

 

والشريعةُ أمرَت العاملَ بأن يكونَ قلبه منطويًا على سراجِ التوكّل، فإذا استضاء به أمدَّه الله بالقوة والعزيمة، والفهم والبصيرة، والصبر والتوفيق، وصرَف عنه الآفات، وأراه من حسنِ العواقب ما لم يكن ليصلَ إليه الإنسانُ لولا توفيقُ الله، وهذا يُريح الإنسانَ مِن الأفكار والوساوِس، ويُفرِغ قلبَه من التقديرات والتدبيرات التي يصعَد منها في عَقبةٍ وينزل في أخرى.

 

وعلى قَدر تجريد التوحيدِ تكون صحّة التوكّل، ومن التفتَ إلى غير الله نقَص تَوكُّله، قال ابن القيم رحمه الله: "الثقةُ بالله تنافي الركودَ والعجز، فإنّ الواثق بالله يفعَل ما أمَره الله، ويثِق بالله في طلوعِ ثمرته وبركتها، كغارِس الشجرة وباذِر الأرض، والثقةُ إنما تصحّ بعد بذل المجهود".

 

عبادَ الله، الإيمانُ بالقدَر لا يُنافي أن يكونَ للإنسان مَشيئةٌ يُحاسَبُ عليها في أفعالِه الاختياريّة، فكلّ إنسان له قدرةٌ وإرادةٌ ومشيئةٌ واختيار، لا يُجبِرُه أحدٌ على فعل خيرٍ أو فِعل شر، قال تعالى: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا[الشمس: 7، 8]، وقال سبحانه: لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيم وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِين[التكوير: 28، 29].

 

وأفعال العبادِ هي مِن الله خَلقًا وإيجادًا وتَقديرًا، وهي مِنَ العباد فعلاً وكسبًا واختيارًا، فالله هو الخالق لأفعالهم، وهم الفاعِلون لها، قال سبحانه: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُون[الصافات: 96]. قال ابن القيم رحمه الله: "ها هنا أمران: قضاءٌ ومقضِيّ، فالقضاء هو فِعل الربّ سبحانه، والمقضيُّ هو المفعولُ المنفصل عنه، فالقضاء كلُّه خيرٌ وعَدلٌ وحكمة، والمقضيُّ منه ما هو مَرضي، ومنه ما هو غيرُ مرضي. مثال ذلك: قتلُ النفس، فله اعتباران: فمِن حيث إنّه قدَّره الله وعلمه وقضاه وكتبه وشاءه وجعله أجلا للمقتول ونهايةً لعُمره فهو كذلك، ومن حيثُ إنه صدَر من القاتل وباشره وكسبه وأقدم عليه باختياره وعصى الله بفعله فهو مسخوطٌ غيرُ مرضيّ، ولم يُجبِره أحدٌ على هذه المعصية، ولا وجه للاحتجاج بالقدر هنا؛ فإنه لا يدرِي أصلاً ما الّذي كتبه الله وقدَّره، فهو مُحاسَبٌ على فِعلِه، لا عَلى ما قدَّره الله ممّا لا يعلَم العبدُ عنه".

 

عن جابر رضي الله عنه قال: جاءَ سُراقةُ بن مالك بنِ جُعشُم إلى النبيِّ فقال: يا رسول الله، بيِّن لنا دينَنا كأنّا خُلِقنا الآن، فيمَ العمل اليوم؟ أفيما جفَّت به الأقلام وجرت المقادير، أم فيما نستقبل؟ قال: ((لا، بل فيما جفَّت به الأقلام وجرت به المقادير))، قال: ففيمَ العمل؟! فقال: ((اعملوا فكلٌّ مُيسَّر))، وفي روايةٍ: ((كلُّ عاملٍ مُيسَّرٌ لعمله)) رواه مسلم.

هذا، وصلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة والنعمة المُسداة، محمد بن عبد الله رسول الله ومُصطفاه.

اللّهمّ صلِّ وسلِّم وزِد وبارِك على عبدك ورسولك سيِّدنا محمّد، وعلى آل بيتِه الطيبين الطاهرين، وصحابته أجمعين، ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمشرِكين، اللّهمّ انصُر مَن نصر الدين، واخذُل الطغاة والملاحدة والمفسدين...

 


faheemfb@gmail.com   فهيم أبوخـطـوة ،، البريد الإلكتروني