خطب الجمـعة |
![]() |
|
148 |
بسم الله الرحمن الرحيم
نماج من صبر الأنبياء
كتبها : الشيخ عمر علي
ترجمها إلى الإنجليزية : د . فهيم بوخطوة
20 ذو الحجَّـة 1431
26 نوفمـبر 2010
أهمية الصبر
لايزال حديثنا موصولا عن الصبر وفضله وأجر الصابرين ، ولعظيم مكانة هذه الصفة كان من أسماء الله تعالى الصبور . وورد ذكر الصبر والحث عليه في كتاب الله تعالى في نحو تسعين موضعا . كما قال اإمام أحمد فلا شيئ إذا أفضل من الصبر فالصبر ضرورة دنيوية كما هو ضرورة دينية .
أيها الأخوة المؤمنون إن الإنسان المؤمن في حاجة إلى الصبر دائما ذلك لأن الله خلق الإنسان كما قال عزوجل [ لقد خلقنا الإنسان في كبد] في مكابده للمشقات والآلام منذ طفولته هذه سنة الله في هذا الإنسان وهذه سنة الله في هذه الحياة، الحياة الدنيا مليئة بالأشواك بالآلام بالمشقات ، الإنسان فيها معرض لبلية نازله أو لنعمة زائلة أو لمنية قاتلة في كل يوم نتعرض لهذا ، سئل الإمام علي رضي الله عنه صف لنا الدنيا قال ماذا أصف؟! أصف لكم من دارٍ أولها بكاء وأوسطها عناء وآخرها فناء، أولها بكاء، أول ما يخرج الإنسان من بطن أمه يبكي ويقول في ذلك الشاعر:
بما تأذن الدنيا به من صروفها *** يكون بكاء الطفل ساعة يولد
وإلا فما يبكيه منهــا وإنها *** لأفسح مما كان فـــيه وأرغد
أولها بكاء وأوسطها عناء، بل كلها عناء يقول بعضهم: زهدت في الدنيا لقلة غنائها، وكثرة عنائها، وسرعة فنائها، وخسة شركائها.
جبلت على كدر وأنت تريدها *** صفواً من الآلام والأكدار؟
ومكلف الأيام ضد طباعـها *** متطلب في الماء جذوة نار..؟
ويقول النبي صلي الله عليه وسلم [لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء] لكنها لا تزن عند الله جناح بعوضة ولذلك ترك للكفار والأشرار والفجار يتمتعون بها. يقول القرآن : (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة {أي على الكفر والضلال} لجعلنا لمن يكفر بالرحمن سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون.. ) ولكن الله سبحانه وتعالى يخشى على عباده ويكره لعباده أن يكونوا أمة على الكفر، فلم يعط كل ذلك للكفار.
المؤمن معرض للإبتلاء
إن الدنيا من شأنها أنها دار بلاء ودار عناء ، لهذا كان لا بد للإنسان المؤمن أن يوطن نفسه على الصبر، فالصبر أيها الأخوة إذا كان ضروريا للإنسان عامة فإن ضرورته للإنسان المؤمن أوكد فأهل الإيمان أشد تعرضا للأذى والإبتلاء والمحن في أموالهم وأنفسهم وكل عزيز لديهم . ( لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور) آل عمران 186 . فقد اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى أن يكون الصراع بين الحق والباطل وأن يتربص أهل الباطل بأهل الإيمان ويكيدوا لهم فكذلك جعل لآدم إبليس ، ولإبراهيم النمرود ، ولموسى فرعون ، ولمحمد أبا جهل وأمثاله : (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين) الفرقان 30 .
ولقد ابتلي الأنبياء والرسل الذين هم أفضل الخلق عند الله تعالى وهذه حقيقة ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم كما أسلفنا في خطبة ماضية بأن : "...أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل ...." يقول تعالى : ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما ياتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم الباساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ) البقرة 214 . فالجنة لابد لها من ثمن ، هي سلعة غالية ، وتستحق أن يُدفع لأجلها الثمن ، وقد دفعه أصحاب الدعوات من قبل . فلا بد من الصبر الصبر على البأساء تُصيب الأموال ، والضراء تُصيب الأبدان ، والزلزلة تُصيب النفوس ، ولابد أن يبلغ هذا الزلزال النفسي من الشدة إلى حد يقول عنده الرسول صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه : متى نصر الله ؟.
صبر الأنبياء على أنواع الإبتلاء
والصبر أيها الأخوة كما ذكرنا أنواع : صبر على بلاء الله ، قد يبتليك الله بمرض في صحتك، بخسارة في مالك ، بفقد حبيب من أحبابك ، لا بد أن تصبر على البلاء ، وهناك صبر عن معصية الله أن تتراءى لك المعصية وأنت قادر على اقتطافها والاستمتاع بها ، ولكن عليك أن تصبر عنها وتفطم نفسك عنها، خشية من عذاب الله ورجاء في ثواب الله .
أينا من الأنبياء الصابرين على البلاء مثل سيدنا أيوب الذي قال الله فيه: (إنا وجدناه صابرا. نعم العبد أنه أوَّاب). صبر على البلاء في بدنه ، وصبر على البلاء في أهله إنا وجدناه صابرا . ووجدنا الصابرين عن معصية الله يتمثلون في يوسف عليه السلام الذي عرضت له المعصية وأغري بالفاحشة وراودته التي هو في بيتها عن نفسه ، وغلقت الأبواب وقالت هيت لك . قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي، إنه لا يفلح الظالمون ، وكان يمكنه أن يقع في أوحال المعصية خصوصا أنه شاب والشباب شعلة من الجنون ، وأنه عزب ولا زوجة له وأنه غريب في أرض لا يعرفه فيها الناس ، لكنه قال إنه ربي أحسن مثواي، ولقد عاودت المرأة الأمر معه بعد أن جمعت النسوة وحصل ما حصل ثم قالت: (فذلكن الذي لمتنني فيه، ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما أمره ليسجنن وليكوناً من الصاغرين) ، المعصية بالأمر، وإن لم يفعل ما أمره وهي سيدته ومالكة أمره ، جربت سلاح الإغراء فلم يفلح ، فلتجرب سلاح التهديد بالسجن والصغار، ولكن يوسف لجأ إلى ربه وقال: (ربي السجن أحب إليَّ مما يدعونني إليه والإ تصرف عني كيدهن، أصب إليهن وأكن من الجاهلين) فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم . إن سيدنا يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام كان نموذجا للشخصية المؤمنة الصابرة لأنه صبر على كيد إخوته وحسدهم وأذاهم وقد ألقوه في غياهب الجب، ثم صبر على الخدمة في البيوت، ثم صبر على مراودة التي هو في بيتها عن نفسه ، ثم صبر على التهمة الباطلة التي اتهم به وألقي من أجلها في السجن ، ثم صبر على ما في السجن من مرارة وظلمات بضع سنين، ألقي في السجن ظلما بضع سنين صبر على هذا كله فكان جزاؤه أن مكنه الله في الأرض . سئل الإمام الشافعي أيهما أولى بالمؤمن: أن يبتلي أو يمكن؟ قال: وهل يمكن المؤمن إلا بعد الابتلاء؟ إن الله ابتلى يوسف ثم مكن له في الأرض [كذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء] ولذلك قال سيدنا يوسف حينما كشف لاخوته عن نفسه [قالوا إنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد مَنَّ الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين] إنه من يتق ويصبر أشار إلى مفتاح القضية كلها التقوى والصبر.
صبر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه
وسيد الصابرين أيها الأخوة الأحباب محمد صلى الله عليه وسلم ولذلك قال الله تعالى له : (فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم) ، (فاصبر صبرا جميلا ) ، ( فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون) ، (واصبر وما صبرك الا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون). وكان صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه الصبر بالقول والفعل ، باللسان والحال فكانوا خير مثال للمؤمنين الصابرين فقد ابتلى المؤمنون في مكة ابتلاء شديدا في أنفسهم وفي أهليهم وفي كل ما يعز عليهم ، ومر النبي صلي الله عليه وسلم على آل ياسر عمار وهم يعذبون ، فلم يملك عليه الصلاة والسلام إلا أن يقول لهم : صبرا آل ياسر فان موعدكم الجنة .
حوصر المسلمون في مكة ثلاث سنوات ، حتى أكلوا أوراق الشجر، حتى دميت أشداقهم مما يأكلون ، عذب المسلمون ،خلال ثلاث عشرة سنة في مكة وجاء خباب بن الأرت إلي النبي صلى الله علية وسلم وكانت له مولاة من قريش تكويه بالنار كيا ، فجاء من هول ما رأي به يشكو للنبي جاء يشكو إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولكن ليس باللغة التي نستخدمها اليوم من مثل بلغ السيل الزُبى لم يعد للصبر مكان ... أو ماشابه ذلك لا ليس بهذه اللغة وإنما قال: "يارسول الله ! ألا تستنصر لنا ، ألا تدعو لنا" . وكلمة (ألا تدعو) من العرض اللطيف ، فهو لم يقل : يا رسول الله ادعو لنا .. استنصر لنا بفعل الأمر وإنما كان بكل أدب ولطف مع رسول الله صلى لله عليه وسلم حيث جاءه يشتكي إليه، فقد كانت الآلام شديدة ، ولم يكن الأمر هينا بل وصل إلى حد القتل ، فقد قُتل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من قُتل تحت التعذيب ، ووصل الحد إلى إكراههم على الكفر والردة كما وقع لجماعة منهم ، ونزل قول الله تعالى: ( إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان) النحل 106 . فكانت شكات الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في غاية اللطف والأدب والهدوء يارسول الله ، ألا تستنصر لنا ، ألا تدعو لنا . أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد جلس إظهارا للإهتمام بهذا الموضوع ثم قال لهم : " قد كان من قبلكم يُؤخذُ الرجل فيُحفر له في الأرض فيُجعل فيها ، فيُجاء بالمنشار فيُوضع على رأسه فيُجعل نصفين ، ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ، فما يصُده ذلك عن دينه ، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون ) . لقد ضرب لهم النبي صلى الله عليه وسلم المثل والقدوة بمن قبلهم من المؤمنين وأن هذا لم يصرفهم عن دينهم ، وكأنه صلى الله عليه وسلم يقول لهم : إحذروا أن يصدكم ما ترون عن دينكم ، فإن هذا الأمر قد يصد الإنسان عن دينه بالردة .
آثار عدم الصبر على الفرد المسلم
وهذا ما نراه في واقع حياتنا اليوم في مجتمعاتنا الإسلامية في ديار الغرب ذلك أن بعض الناس قد يتخلى عن دينه أمام الضغوط المادية والنفسية ، أمام قلة المال أو كثرته وأمام فتنة الحضارة الغربية وبهرجتها من نساء وخمر وملذات . وهناك من قد لا يترك الإسلام بالكلية لينتقل إلى دين آخر ، ولكن يتخلى عن بعض شرائع الإسلام . وما ذلك إلا لأن الإنسان إذا فقد صبره فقد الكثير من دينه . وكثير من الناس كذلك حينما يقع عليهم الأذى يندفع للإنتقام وللإنتصار، وهذا الإنتصار ليس من الدين في شيئ . بل هو انتصار للنفس . والشرع عندما أباح للإنسان أن ينتصر لنفسه ضبط ذلك الإنتصار، فحرم عليه أن يظلم من ظلمه ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: " أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك" . ومن كذب عليك فلا يجوز أن تكذب عليه ، ومن اعتدى على عرضك بغير حق لا يجوز لك أن تعتدي على عرضه ، ومن أشاع عنك قالة السوء لا يجوز لك أن تشيع عنه قالة السوء ، ومن ظلمك لا يجوز أن تظلمه ، ومن خانك لا يجوز أن تخونه ، وهذا من أعظم قيم الإسلام وأخلاقياته الكريمة .
وحينما يقع الإنسان في بعض هذا الإنتقام والإنتصار للنفس بغير ما شرع الله تعالى يكون قد تخلى عن بعض قيم وشرائع الدين . فاصبر أخي المؤمن فلله تعالى أقدار ، وادعوا الله تعالى بقلب صادق وأنت مؤمن بأن ما يؤجله الله تعالى فهو خير ، وما يُعجله فهو خير، وما يكتبه الله تعالى في النهاية فهو خير (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون) البقرة 216 .
الصبر أيها الأخوة مفتاح كل خير، فعلينا أن نعتصم بالصبر، وأن نحبس نفوسنا على ما تكره ، وإذا حبسنا نفوسنا على ما تكره ، فتلك عبادة من أرقى العبادات ومقام من أعلى المقامات وخلق من أسمى الأخلاق، وخلق من الأخلاق الربانية، من أخلاق المؤمنين ومن أخلاق المرسلين . طاعة الله وعلى بلاء الله وعن معصية الله . وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم ولاحول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .