خطب الجمـعة |
![]() |
|
151 |
بسم الله الرحمن الرحيم
ولا تحاسدوا
كتبها : الشيخ عمر علي الحدراوي
ترجمها إلى الإنجليزية : د . فهيم بوخطوة
11 المحرّم 1432
17 ديسمبر 2010
عباد الله: لا يزال الحديث موصولا بما بدأناه في الجمعة الماضية من حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي رواه انس بن مالك رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: " لا تقاطعوا ، ولا تدابروا ، و لا تباغضوا ، و لا تحاسدوا ، و كونوا عباد الله إخوانا ، و لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثٍ... يلتقيان فيعرض هذا و يُعرض هذا و خيرهما الذي يبدأ بالسلام يسبق إلى الجنة." و وقفنا عند شرحنا للحديث عند قوله صلى الله عليه و سلم : "ولا تحاسدوا" أي لا يحسد بعضكم بعضا، فإن الحسد حرام ومن الكبائر وهو تمني زوال نعمة الغير سواء تمنى إنتقالها إليه أم لا... و الحسد خلق ذميم و مما قيل فيه : أنه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب . وورد أنه يُفسد الإيمان كما يُفسد الصبر العسل ، و قال بعضهم ليس شيئ أضر من الحسد ، يصل بسببه إلى الحاسد خمس عقوبات : غم لا ينقطع ، ومصيبة لا يُؤجر عليها ، ومذمة لا يُحمد بها ، و يسخط عليه الرب، و يُغلق عنه أبواب التوفيق.
وقال بعضهم : الحاسد جاحد لأنه لا يرضى بقضاء الواحد... و في معنى ذلك قيل :
ألا قل لمن بات لي حاسدا *** أتدري على من أسأت الأدب؟
أسـأت على الله في فعلــــه *** كأنك لم ترضى لي مـــاوهب
إخوة الإيمان و العقيدة : إن ديننا الإسلامي الحنيف ينشد إقامة المجتمع المتماسك المترابط الطاهر من مثل هذه الأمراض الفتاكة مرض الأثرة و الحسد و حب الذات و الأنانية ، لتكون أمتنا أمة فاضلة سليمة الصدور و النفوس مُهذبة المشاعر صافية القلوب كما كان الجيل الأول من الصحابة الكرام الذين تربوا على يدي النبي الكريم صلى الله عليه و سلم. فكانو يمتازون بالسلامة في المنهج و السيرة ، و بالطهارة في القلب و السريرة. على ذلك رباهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال في حديث آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " لاتحاسدوا ، ولا تناجشوا ، ولا تباغضوا ، و لا تدابروا ، و لا يبع بعضكم على بيع بعض ، و كونوا عباد الله إخوانا ، المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه و لا يخذله و لا يكذبه و لا يحقره، التقوى ها هنا ـ ويشير إلى صدره ثلاث مرات ــ بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ، كل المسلم على المسلم حرام دمه و ماله و عرضه" رواه مسلم.
الله أكبر كم جمعت هذه الكلمات اليسيرة من معان عظيمة و توجيهات كبيرة ، فأول مانهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الحسد الذي هو أول ذنب عُصي به الله تعالى حين حسد ابليس آدم ، و لم يزل به حتى أخرجه من الجنة، فبالحسد لُعن إبليس و جُعل شيطانا رجيما.
والحسد خُلق اليهود والمشركين ، إذ عادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفروا به وبرسالته وهم يعلمون أنه صادق وأن رسالته هي الحق من عند الله تعالى حسدا من عند أنفسهم يقول تعالى : ( ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم أنه الحق ) البقرة 109 .
فالحاسد معترض على قضاء الله و قدره ولم يرض بما قسم الله لغيره ، و هو دليل على قبح النفس و سوء طبعها. يقول الله تعالى : ( أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يُؤتون الناس نقيرا أم يحسُدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملك عظيما ) النساء 53 ـ 54 . فالحسد أيها الإخوة من نتائج الحقد و البغضاء فقد ورد في الأثر عن الزبير بن العوام رضي الله : "دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء" . فالحسد جريمة نفسية ، و يُقال عنها : إنها الجريمة التي تسبقها عقوبتها ، وهي عكس أي جريمة أخرى ، فأي جريمة نجد أن عقوبتها تتأخر عنها حتى تقع ، وأما عقوبة الحسد فهي تنال من صاحبها من قبل أن يحسد ، لأن الحاسد لا يحسد إلا لأن قلبه و مشاعره تتمزق عندما يرى المحسود في خير ، و لذلك يُقال : " حسبك من الحاسد أنه يغتم و قت سرورك" و يقول الشاعر :
اصبر على كيد الحسود فإن صبرك قاتله ** فالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله
بينما القلب المؤمن السليم الطاهر النقي لا يجد الحسد فيه مكانه ليسكنه فهذا الرسول صلى الله عليه و سلم يبين لنا حال صاحب القلب السليم بقوله : " يطلع عليكم من هذا الفج رجل من أهل الجنة ، فطلع رجل فسُئل عن عمله ، فقال : إني لا أجد لأحد من المسلمين في نفسي غشا و لا حسدا على خير أعطاه الله إياه" .
قال ابن سيرين : ما حسدت أحدا على شيئ من أمر الدنيا ، لأنه إن كان من أهل الجنة ، فكيف أحسده على أمر الدنيا ، و هو يصير إلى الجنة، و إن كان من أهل النار ، فكيف أحسده على شيئ من أمر الدنيا ، و هو يصير إلى النار. و قال بعض الحكماء: الحسد جرح لا يبرأ و حسب الحسود ما يلقى . و قال أعرابي : ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من حاسد ، إنه يرى النعمة عليك نقمة عليه . و قال الحسن يا ابن آدم لم تحسد أخاك ؟ فإن كان الذي أعطاه لكرامته عليه فلم تحسد من أكرمه الله ؟ و إن غير ذلك فلم تحسد من مصيره إلى النار ؟ و قال بعضهم : الحاسد لا ينال من المجالس إلا مذمة و ذلا ، و لا ينال من الملائكة إلا لعنة و بغضا ، و لا ينال من الخلق إلا جزعا و غما و لا ينال عند النزع إلا شدة و هولا ، و لا ينال عند الموقف إلا فضيحة و نكالا.
و قال معاوية : كل الناس أقدر على رضاه إلا حاسد نعمة ، فإنه لا يُرضيه إلا زوالها ، و لذلك قيل :
كل العداوات قد تُرجى إماتتها *** إلا عداوة من عاداك من حسد
واعلم أخي الكريم أن الله تعالى إذا أنعم على أخيك نعمة فلك فيه حالتان كما يقول الإمام المقدسي رحمه الله :
الأولى : أن تكره و جودها و تُحب زوالها ، فهذا هو الحسد .
والثانية : أن لا تكره و جودها و لا تُحب زوالها ، و لكنك تشتهي لنفسك مثلها ، فهذا يُسمى غبطة. و هي من الحسد المجازي و هو غير مذموم و عليه حُمل الحديث : " لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الخير ، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها و يُعلمها الناس" يعني ليس بشيئ من الدنيا حقيقا بالغبطة عليه إلا هاتان الخصلتان : العلم و انفاق المال في سبيل الله تعالى. و الغبطة مباحة في الأمور الدنيوية و سنة في الأمور الدينية.
فيا من ابتُليت بهذا الداء داء الحسد أقول لك اتقي و لا تنسى انك مسلم تُؤمن بأن الله تعالى قسم الأرزاق بين خلقه ، فمنهم ذو السعة و اليسار ، و منهم من قُدر عليه رزقه ، رفع الله بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سُخريا و رحمة ربك خير مما يجمعون . فإذا أردت السلامة في دينك و الطمأنينة في قلبك وترجوا رضى ربك فلاحظ نفسك، و طهر قلبك، و اقنع بما قسم الله ، واسأل الله من فضله ، فهو سبحانه الذي يُعطي و يمنع ، ويخفض و يرفع ، يُعز من يشاء ، و يُذل من يشاء، خزائنه ملأى و عطاؤه و اسع سبحانه.
بارك الله لي و لكم في القرآن العظيم و نفعني و إياكم بما فيه من الآيات و الذكر الحكيم ، و أقول قولي هذا و أستغفر الله لي و لكم و لسائر المسلمين من كل ذنب و خطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين و أشهد أن لا إله إلا الله و حده لا شريك له الملك الحق المبين ، وأشهد أن محمدا عبده و رسوله الهادي الأمين، صلى الله عليه و صحبه أجمعين :
وبعد ، ويمضي التوجيه النبوي الكريم في هذا الحديث الجامع العظيم بعد أن نهى عن رذائل الأخلاق التي تُوقع بين المسلمين الخصام والشقاق ، وتُنافي معاني الأخوة إلى الأمر بما ينبغي أن يكون عليه المجتمع المسلم من تماسك وترابط فيقول: وكونوا عباد الله إخوانا" وفي هذا الموضوع ستكون خطبتنا في الجمعة القادمة إن كان في العمر بقية إن شاء الله تعالى .
عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يظكم لعلكم تذكرون فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يودكم و لذكر الله أكبر و الله يعلم ما تصنعون وأقم الصلاة .