خطب الجمـعة |
![]() |
|
152 |
بسم الله الرحمن الرحيم
وكونوا عباد الله إخوانا
كتبها : الشيخ عبد الرزّاق طاهر فارح
ترجمها إلى الإنجليزية : د . فهيم بوخطوة
18 المحرّم 1432
24 ديسمبر 2010
أما بعد أيها الأخوة الأحباب: وصلنا بحديثنا في الجمعة الماضية إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "وكونوا عباد الله إخوانا .. ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث" وفي الحديث الآخر يقول صلى الله عليه وسلم: "وكونوا عباد الله إخوانا .. المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يُكذبه ولا يحقره ... ( وفي رواية ولا يُسلمه) التقوى ها هنا ويُشير إلى صدره ثلاث مرات .. بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه"
فهذه الوصية النبوية تأتي لتؤكد في الدرجة الأولى على معنى الوحدة الإسلامية المتمثلة في الأخوة الإيمانية ، التي في ظلالها يعيش الفرد المسلم ملتزما بالإسلام عقيدة وعبادة ومنهاجا للحياة. فالله سبحانه وتعالى سمى هذه الأمة بكل شعوبها عربا كانوا أم عجما ، بيضا كانوا أم سودا ، في مشرق أو مغرب ـ سماهم أمة قال تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) البقرة : 143. وأمرهم بالوحدة ، ونهاهم عن التفرق والتنازع ، (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) آل عمران: 103 . (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم) آل عمران : 105 .
عباد الله:"وكونوا عباد الله إخوانا"
حقيقة نبوية تؤكد ما قاله الله تعالى وأمر به في قوله سبحانه: (إنما المؤمنون إخوة) الحجرات الآية 10 . قالها الله في كتابه ، وأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض وآخى بين أصحابه ، فلا قبائل وحزبيات ولا عصبيات ولا ألوان .
(يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) الحجرات اآية 13. فأكرمنا أقربنا إلى الله تعالى ، وليس أكرمنا فلان ابن فلان . فقد كان الناس قبل بزوغ شمس الإسلام ، وبعث محمد صلى الله عليه وسلم برسالة الإسلام ، يعيشون في جاهلية جهلاء ، وضلالة عمياء فما كانت تحكمهم إلا التقاليد والعادات والنعرات القبلية الجاهلية يعتزون بها ويفتخرون بها حتى توارثها الناس بل وبقيت بعض آثارها للأسف إلى يوم الناس هذا من مثل الفخر بالأباء والعصبية للقبيلة فلذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنها ستبقى في أمته فقال عليه الصلاة والسلام: ( ثلاثة في أمتي من أمر الجاهلية: الطعن في الأنساب ، والفخر في الأحساب، والنياحة على الميت) فبين صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن هذه الصفات كانت موجودة في الجاهلية وأن الناس لا يزالون متمسكين بها . فكان أبو جهل يقول: أنا من بني مخزوم ، وأنا سيد قريش ، وأنا وأنا .. ولكنه لما كفر بالله أدخله الله على وجهه في النار فما نفعته أسرته , ولا علا به نسبه . وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: "لينتهين أقوام يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا ، إنما هم فحم من جهنم".
وكانت تقوم الحروب الطاحنة بين القبائل ، ويقع القتل والسلب والنهب ، والخيانة والغدر من أجل كلمة أو قصيدة شعرية ولعل من آخر ما كان من هذا الشأن " يوم بُعاث الذي كان بين الأوس والخزرج في يثرب قبل الإسلام فقد دارت رحى الحرب بينهم نحوا من مائة عام وفي ذلك اليوم قُتل خيرة رجال وصناديد القبيلتين . فلما جاء الإسلام جاء بكل مايعود على الناس بالخير في الدنيا والآخرة وأرسى مقومات هذ الدين وهذب النفوس ورباها على الإسلام والإيمان وجعل أخوة الإسلام هي أقوى الروابط بين المسلمين . فالمؤمنون إخوة ... أخوة أعظم من أخوة النسب ، وأعظم من قرب الحسب لأنها أخوة تصلهم بالله تعالى . يقول عز من قائل: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون) آل عمران 103.
قيل في سبب الآية: أن الآوس والخزرج ، أنصار الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة ، تآخوا ، وتآلفوا وتحابوا في الله ... فغاظ ذلك اليهود ، فأتى يهودي مجرم إلى المدينة ، فدخل على الأوس والخزرج ، وهم في المسجد ، فقال انسيتم حروب الجاهلية ؟ وأصبح يُعيد ذكريات الحروب ، والثارات القديمة ، حتى أشعل الفتنة بينهمم ، فنسوا ما اعتادوا عليه من الألفة والمحبة ، فقام شاب من الخزرج فسل سيفه ، ياللطيمة ياللطيمة . وقام أوسي . فتواعدوا في منطقة الحرة، فخرجت القبيلتان ، والموت يقطر من سيوفهم ، لأن الناس والقبائل يوم ينسون لا إله إلا الله ، ويوم ينسون رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم ويوم ينسون الأخوة والحب الذي انزله في كتابه ، ويوم ينسون الجنة والنار ، والصراط والميزان ، يُصبحون كأنهم قطيع من البهائم في الغابة .
فأخذوا السيوف ، وصفوا الصفوف ، وارادوا أن يقتتلوا ، فسمع الرسول صلى الله عليه وسلم الخبر ، فخرج من بيته وهو يقول: (حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم) . يقول أهل العلم: خرج بلا حذا ، يجر إزاره ، (لخطورة الموقف) ، فوصل بين الصفين ، والسيوف قد سُلت ، والموت الأحمر يتقاطر من رؤوسها . فوقف بين الصفين ، وقال: "يأيها الناس أما كنتم ضُلالا فهداكم الله بي ؟ أما كنتم متفرقين فجمعكم الله بي ؟ أما كنتم متحاربين فآخى الله بينكم بي؟ "
قالوا: بلى.
قال: "ألست فيكم؟"
قالوا: "بلى"
قال: "أما نزل الوحي وأنا بين أظهركم"
قالوا: "بلى"
قال: "فما هذا؟"
فوضعوا السيوف على التراب ، ,قالوا نستغفر الله ، وأخذوا يبكون ويتعانقون.
فأنزل الله تعالى (يأيها الذين آمنوا إن تُطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين) آل عمران 100 .
لقد أحيا الله تعالى هذه الأمة بأن أرسل فيها محمدا صلى الله عليه وسلم فأخرجهم من الظلمات إلى النور وعلمهم الإخاء والتواد بعد أن كانوا متناحرين متباغضين.
"وكونوا عباد الله إخوانا"
يقول عمر رضي الله عنه: والله إنه ليطول علي الليل إذا تذكرت أخي في الله ، فأتمنى الصباح لأعانقه شوقا إليه.
يقول تعالى: (وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم) الأنفال 63. أي والله ، والذي لا إله إلا هو لو أنفقت ما في الدنيا من ذهب وفضة ، على ان تؤلف بين قلوب الناس ما ألفت بينهم ، ولا آخيت بينهم ، لأن القلوب لا تلتقي إلا على دين الله تعالى .
إن هذه الأمة أعلى الله شأنها بالإسلام فألف بين شعوبها وقبائلها فأصبحت أمة واحدة ، يُقاتلون في صف واحد ، ويُصلون في صف واحد:
وأينما ذكر اسم الله في بلد *** عددت ذاك الحمى من صُلب أوطاني
وهكذا ربى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وكان يعالج ما قد يقع من خطأ من أحد اصحابة فلا يتساهل النبي صلى الله عليه ولم في ذلك أبدا ولا يترك هذا المر دون علاج فعند البخاري في الصحيح: أن الصحابة اجتمعوا في مجلس يتشاورون في أمر الحرب ، وكان معهم سيف الله خالد بن الوليد أبو سليمان ، ومعهم بلال بن رباح المولى العبد الذي رفعه الله بالإسلام حتى أصبح سيدا من السادات ، ومعهم أبو ذر. فتكلم بلال . فرد عليه أبو ذر ، وقال يا ابن السوداء .
فقال: بلال والله لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره ، وقال: يارسول الله !! أبو ذر تكلمت فقال لي كذا وكذا . فاحمر وجهه صلى الله عليه وسلم ، واستدعى أبا ذر ، فقال له: "أعيرته بأمه ، إنك امرؤ فيك جاهلية" قال: يا رسول الله أعلى كبر سني وشيبتي؟
قال: "نعم ، إنك امرؤ فيك جاهلية" .
فخرج ابو ذر رضي الله عنه وقال: لا جرم ، والله لأنصفن بلالا من نفسي ، فوضع أبو ذر رأسه على التراب ، وقال: طأ يا بلال رأسي برجلك ، والله لا أرفع رأسي حتى تطأه برجلك .
تلك هي التربية النبوية للجيل الأول التربية على التآلف وعلى الحب الذي يمحي كل خطأ، وكل ذنب يقول سبحانه وتعالى عن المؤمنين: (أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين) المائدة 54.
فعلينا أيها الأخوة أن نلاحظ هذا وأن نمتثل أمر الله تعالى وأمر رسوله بأن نكون إخوانا في الله متحابين متآزرين حيث لا غل ولا حقد ولا حسد: فـ "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه .. ولا يخذله ولا يحقره ..." وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول: "ما أطيبك وأطيب ريحك ، ما أعظمك وأعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك". فالله الله أيها الأخوة في أخوتكم تمسكوا بها وابتعدوا عن دعاوى الجاهلية بإثارة النعرات والفخر بالأحساب والدعوة للقوميات والترفع على عباد الله والتكبر والخيلاء وبث الفرقة والكراهية والبغضاء بين المسلمين وإننا للأسف نرى شيئا من أمر الجاهلية هذا ينتشر بيننا في الجالية المسلمة بشكل أصبح مُلفتا للنظر فإننا نرى تعصب الناس بعضهم لبعض على حساب الأخوة الإسلامية فهذا يتعصب لقومه وهذا يتعصب لجنسه ويفتخر بأحسابه على الآخرين فيثير الحساسيات بين الناس فقد يفتخر المصري على الجزائري أو الليبي على الفلسطيني أو التونسي على العراقي أوالباكستاني على الهندي بل قد نجد أحيانا الدعوة للتفريق والفخر بين أبناء القطر الواحد كأن يفتخر الذي من الشرق على الذي من الغرب أو يفتخر الذي من شمال القطر على الذي من جنوبهال وهلم جرا وكل هذا مما نهى الله تعالى ورسوله عنه. ووجود هذا الداء فيما بيننا يجعلنا ندق نواقيس الخطر فترتفع أصواتنا لتوعية الناس محذيرين إياهم إياكم ودعوى الجاهلية دعوها فإنها منتنة كما يقول صلى الله عليه وسلم: وذلك لما حصل في احدى غزواته شجار بين رجل من المهاجرين وآخر من الأنصار صاح الأنصاري يا للأنصار وصاح المهاجري يا للمهاجرين قال عليه الصلاة والسلام: أبدعوا الجاهلية وأنا بين أظهركم ، دعوها فإنها منتنة . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: "إن الله عز وجل قد أذهب عنكم عبية الجاهلية والفخر بالآباء مؤمن تقي وفاجر شقي الناس بنو آدم وآدم خلق من تراب لينتهين أقوام عن فخرهم بآبائهم في الجاهلية أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع النتن بأنفها"، رواه الإمام أحمد وأبو داود، وخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط أيام التشريق في حجة الوداع فقال: "يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى" (رواه أحمد وصححه الألباني)، وقال عمر بن الخطاب: "إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العزة بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله".
عباد الله: إن لكل منا دور كبير في السعي في الإصلاح تجاه هذه الظاهرة ، فليقم كل منا بدوره قدر استطاعته ، فمن تلك الوسائل: مخاطبة هؤلاء مشافهة وبيان خطر ما يأتون من ذلك ، مُذكرين إياهم بوصية النبي صلى الله عليه وسلم: "وكونوا عباد الله إخوانا" وكذلك التنبيه إلى مايترتب على النعرات الجاهلية التي تقوم على الفخر والدعوة للعصبية والقومية والقطرية والجهوية من آثار سلبية ومفاسد عظيمة على الفرد والمجتمع منها على سبيل المثال:
اولا: مخالفة أومر الله وأومر رسوله صلى الله عليه وسلم التي تأمر بالأخذ بأسباب الأخوة والألفة بين المسلمين ، وتأمر بالبعد عن كل ما من شأنه إحداث العداوة الفرقة والشحنا والبغضاء.
ثانيا: ومنها: تربية الناشئة الذين عليهم نعول بعد الله سبحانه وتعالى في رفعت أمتنا على العداوات فيما بينهم فلا تجد احدهم إلا شيطانا يبحث عن السفاسف والعصبيات ويسعى لها ليؤجج نارها غير عابئ بعواقب الأمور .
ثالثا: ومنها: نزع حجاب الحياء عند هذا النوع من الناس وعدم احترامهم لمشاعر الآخرين .
رابعا: ومنها حدوث الانتقامات وردات الفعل والضغائن والتشفي من الغير بمجرد انه من البلد الفلاني أو القطر الفلاني أو الجهة الفلانية .
كل هذه المفاسد وغيرها كثير تحصل إذا لم يقض على هذه الظاهرة الخبيثة ، ولا يتم ذلك إلا بتعاون الجميع من أفراد الجالية والإسهام بالإصلاح كلٌّ حسب قدرته واستطاعته .
الا فاتقوا الله عباد الله وأقول ما تسمعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.