خطب الجمـعة |
![]() |
|
156 |
بسم الله الرحمن الرحيم
الإبتعاد عن الشُّبُهَات
كتبها : الشيخ عمر علي الخذراوي
ترجمها إلى الإنجليزية : د . فهيم بوخطوة
16 صفر 1432
21 يناير 2011
أما بعد :
فيا أيها الأخوة المسلمون ، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه النعمان بن بشير رضي الله : " إن الحلال بين والحلال بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه . ألا وإن في الجسد مضغة إدا صلحت صلح الجسد كله وإدا فسدت فسد الجسد كله . ألا وهي القلب" . متفق عليه .
فهذا الحديث الشريف هو أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام فهو يجمع في ثناياه توجيهات نبوية عظيمة ينبغي للمؤمن الوقوف عندها ، فما ترك الله سبحانه وتعالى ورسوله حلالا إلا مُبينا ولا حراما إلا مبينا. كما قال صلى الله عليه وسلم : " تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك " وهذا من لطف الله بنا معشر المسلمين أن بين لنا الحرام من الحلال . ومن هنا كان الحلال البين لا حرج في فعله والحرام البين لا ر خصة في إتيانه . ولكن هناك منطقة بين الحلال والحرام وهي منطقة الشبهات التي يلتبس أمرها من ناحية الحل والحرمة على كثير من الناس، فجعل الإسلام من الورع أن يتجنب المسلم هذه الشُبهات حت لا يجره الوقوع فيها إلى الوقوع في الحرام .
فإنه إن اجتنبها فقد استبرأ لدينه وعرضه ، ومعنى استبرأ طلب البراءة لدينه وعرضه من النقص والشين . وفي هذا دليل على أن من ارتكب الشُبهات فقد عرض نفسه للقدح فيه والطعن كما قال بعض السلف : من عرض نفسه للتهم فلا يلومن من أساء الظن به .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم مضرب المثل في الورع والتقوى والبعد عن مواطن الشبهات فقد قال في الحديث الصحيح : " إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي فأرفعها لآكلها ثم أخشى أن تكون من الصدقة فألقيها " متفق عليه. وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم أصابه أرق من الليل ، فقال له بعض نسائه :يارسول الله أرقت الليلة ؟ فقال : إني كنت أصبت تمرة تحت جنبي فأكلتها وكان عندنا تمر من تمر الصدقة فخشيت أن تكون منه " رواه أحمد . يا الله أنظروا إلى هذا الطراز من البشر إنها حقا النبوة : (وإنك لعلى خُلق عظيم) . تمرة تسقط على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يستطيع أكلها وتُؤرقه وتُذهب عنه النوم ليله كله خشية أن تكون من أموال الصدقة ، فما بلنا بالذين يأكلون خيرات البلاد ويحلون بالعباد دون أن يرعوا في ذلك خُلقا ولا خشية ؟ .. ويبالغ النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في تحذير أمته من مقارفة الحرام أو الوقوع في الشبهات حتى يقول : " لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع مالابأس به حذرا مما به بأس"
و في ذلك يقول أبو الدرداء رضي الله عنه :"تمام التقوى أن يتقي الله العبدُ حتى يتقيه من مثقال ذرة وحتى يترك بعض مايرى أنه حلال خشية أن يكون حراما حجابا بينه وبين الحرام" وقال الحسن البصري : "مازالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيرا من الحلال مخافة الحرام" . وروي عن بن عمر قوله : "إني لأحب أن أدع بيني وبين الحرام سترة من الحلال لا أخرقها" . وبالرجوع إلى السلف الصالح نجد الورع والخشية والتقوى لله عز وجل متمثلة واضحة في حياتهم ... قيل لإبراهيم بن الأدهم : ألا تشرب من ماء زمزم فقال : لو كان لي دلو لشربت منه . وحين نتأمل منطق إبراهيم بن أدهم فإننا نجد الورع في أعظم صوره فما قوله هذا إلا إشارة إلى أن الدلو لمّا كان من مال السلطان كان فيه شُبهة ومن هنا لم يشرب بدلو السلطان .. كما ثبت عن الصديق رضي الله عنه أنه أكل ما فيه شُبهة غير عالم بها فلما علم بها أدخل يده في فيه فتقيأها .. وماهذا إلا نتيجة خوفه من عذاب الله يوم القيامة . فعن عائشة رضي الله عنها قالت : "كان لأبي بكر الصديق رضي الله عنه ، غُلام يُخرج له الخراج وكان أبوبكر يأكل من خراجه ، فجاء يوما بسيئ ، فأكل منه أبوبكر ، فقال له الغلام تدري ما هذا ؟ قاتل : كُنت تكهنت لإنسان في الجاهلية وما أحسن الكهانة فلقيني ، فأعطاني بذلك ، هذا الذي أكلت منه ، فأدخل أبوبكر يده فقاء كل شيئ في بطنه" رواه البخاري .
عباد الله : فهذا الحديث العظيم "الحلال بين والحرام بين .." يُستدل به إلى سد الذرائع إلى المُحرمات وتحريم الوسائل إليها . فحين يُحرم الإسلام شيئا يُحرم كل ما يُفضي إليه من وسائل ويسد الذرائع الموصلة إليه . فعندما حرم الله الزنى مثلا لم يقل ولا تزنوا وإنما قال: (ولا تقربوا الزنا . إنه كان فاحشة وساء سبيلا) فلا تقربو يعني تحريم كل مقدمات الزنا من تبرج واختلاط غير مشروع وملامسة وصور ماجنة خليعة ونظرة حرام يقول سبحانه وتعالى : (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون، وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن...) [النور:30-31]. وقال صلى الله عليه وسلم : "العينان تزنيان ، وزناهما النظر" متفق عليه . وفي الربا حرم مقدماته كلها . فكاتب الربا ملعون ، وشاهده ملعون ومؤكله ملعون... وإذا كان الإسلام حرم ما يُفضي إلى كل شيئ مُحرم من وسائل ظاهرة حرَّم التحايل والحيل الشيطانية قال صلى الله عليه وسلم : "لا ترتكبوا ما ارنكب اليهود وتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل.." فإذا اخترع الناس صورا حيلا يتحايلون بها على أكل الربا الخبيث فيسمونه فوائد بنكية وأتعاب وما شابه ذلك ، يُسمون العري والرقص والغناء الماجن فنا ، أو يشربون الخمر ويسمونها بغير اسمها كأن يسموها مشروبات روحية فإن الإثم فيها باق قال صلى الله عليه وسلم : "ليستحلن طائفة من أمتي الخمر يُسمونها بغير اسمها ..." وكأن الحديث يُصور لنا زماننا هذا الذي نعيش فيه وهذا من معجزاته صلى الله عليه وسلم إذا بين لنا ما سوف يكون بعلم للغيب علمه الله إياه. فقد أصبح البعض في عصرنا هذا من يستحل الربا باسم البيع : (... ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا ، وأحل الله البيع وحرًّم الربا...) البقرة 277 .
عباد الله : إن المؤمن الحق هو الذي يُراقب الله في أفعاله وأقواله ، فلنتق الله في أعمالنا وليكن الورع سياجنا وما ذلك علينا ببعيد ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد أصحابه : " اتق المحارم تكن أعبد الناس". هذا واسألوا الله من فضله .