Checkout

خطب الجمـعة

faheemfb@gmail.com

155

      

 

     
 

     


بسم الله الرحمن الرحيم

الفتور والكسل عن العبادة

 

كتبها : الشيخ عمر علي الخذراوي 

ترجمها إلى الإنجليزية : د . فهيم بوخطوة

 

09 صفر 1432 هـ

14 يناير 2010 م

 

أيها الأخوة الأحباب أتحدث اليوم بإذن الله تعالى عن مرض الفتور وهو مرض خطير يصيب بعض العاملين للإسلام يتمثل في الكسل عن العبادة  أو التراخي أو السكون بعد الحركة، ثم يتطور إلى الخمول والإنقطاع عن العمل نهائيا هذا هو الفتور. وقد مدح الله ملائكته الكرام فقال: (( وله من في السموات والأرض، ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون)) الأنبياء 19. 20. (( أي أنهم في عبادة دائمة يُنزهون الله عما لا يليق به ويُصلون ويذكرون الله ليل نهار، لا يضعفون ولا يسأمون)).  وحديثي اليوم  صرخة نذير وذكرى لعلها تنفع المؤمنين قال تعالى: (( وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين)) الذاريات.

 

أيها الإخوة إنني عندما أتحدث عن مثل هذه المواضيع وأتطرق إليه لا أعني أن يكون المسلم ملاكا لا يُخطئ ولا ينسى وإنما أريد من المسلم أن يتمثل بالوسطية والإعتدال في العبادة فالدين الإسلامي دين يميزه أنه دين واقعي فهو لا يغفل ولا يُهمل الطبيعة البشرية، أو ينفي عجزها ولكنه بين لنا أحكاما وحد لنا حدودا كما ذكرنا في الخطبة الماضية عن الإستقامة والثبات من أن: "لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى".  ولبيان ذلك هذا أبوبكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه  حينما مرّ بصحابي رآه يبكي، سأله الصديق مالك يا حنظلة تبكي؟ قال: نافق حنظلة، قال له: ولِمَ يا أخي؟ قال حنظلة: نكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن والجنة كهاتين، فإذا عدنا إلى بيوتنا عافسنا الأهل والأولاد، نسينا كثيرا، فسيدنا الصديق من تواضعه الشديد قال: أنا كذلك يا حنظلة، انطلق بنا إلى رسول الله. فانطلقا إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وحدثاه بهذا الحال، فقال عليه الصلاة والسلام: أما نحن معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا، أما أنتم يا أخي فساعة وساعة، ولو بقيتم على الحال التي أنتم عليها عندي، لصافحتكم الملائكة، ولزارتكم في بيوتكم. ومن هذا يتجلى لنا بكل وضوح أن مقام النبوة لا يمكن إلا في إقبال مستمر، وتألق مستمر، وهمة عالية باستمرار، أما مقام الإيمان فهو يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، أو بمعنى آخر ساعة وساعة كما جاء في الحديث، ولكن احذروا أيها الأخوة من التفسير الخاطئ لمعنى ساعة وساعة، وإياكم ثم إياكم أن تفهموا أن الساعة الثانية ساعة معصية، لا فهذا مستحيل ولا يمكن أن يُتصور أبدا، ولكن ساعة حماس وعلو همة وساعة فتور، فإن للنفس إقبالا وإدبارا، فإن أقبلت على الطاعة واجتهدت في العبادة فاحملها على العزائم، وألزمها منزلة التقوى والخشية والورع، وإن أدبرت وارتخت وقلت همتها فاحملها على الفرائض وهو الحد الأدنى من الإلتزام المطلوب من كل مؤمن أن يكون عليه. أما الإستقامة فمستمرة على  الدوام، أما أن يفهم البعض معنى ساعة وساعة بأنها ساعة طاعة وساعة معصية، فهذا فهم إنما اختص به المنافقون، وضعاف الإيمان.

 

حال رسول الله والسلف الصالح في المداومة على العمل وعدم الملل:

 

و لقد كان حال رسول الله صلى الله عليه وسلم الإستمرار في العمل والطاعة، فقد جاء في صحيح ابن حبان عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان عمل رسول الله صلَّ الله عليه وسلّم دِيمَة، وفي حديث آخر: "كان أحب العمل إلى رسول الله الذي يدوم عليه صاحبه، وكان إذا فاتته الصلاة من الليل من وجع أو غيره صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة". رواه مسلم. وكان يقول لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: ((يا عبد الله، لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل فترك قيام الليل)) متفق عليه. وإن سلف هذه الأمة الذين التزموا بهذا الدين فسادوا هذه الدنيا قرونا لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه إلا بالصبر والمصابرة والعمل والمثابرة، وعلو الهمة يقول تعالى (ياأيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تُفلحون) آل عمران 200. فكانت الفتوحات التي فتحت بإذن الله القلوب قبل الدروب، وكانت الإنجازات الحضارية والتحقيقات العلمية، فكان المجتمع المسلم من خير المجتمعات وأزكاها، تمثلت فيه أخلاق الإسلام وتعاليمه وآدابه في جميع شؤونه. وكان أفراد هذا المجتمع يُخالط العمل للإسلام شغاف قلوبهم، فينطلقون في العمل لله وللإسلام بأقوالهم وأفعالهم، فتجد الأمر بالمعروف والمداومة على الطاعة والإقبال عليها إقبال  الظمآن على الماء البارد. ركب عمرو بن العاص رضي الله عنه عندما كان أميرًا على مصر بغلة قد تغيّر حالها، فقال له أحدهم: أتركب هذه البغلة وأنت من أقدر الناس على امتطاء أكرم فرس بمصر؟! فقال: لا ملَل عندي لدابتي ما حملت رحلي، ولا لامرأتي ما أحسنت عشرتي، ولا لصديقي ما حفظ سري، فإن الملل من كواذبَ الأخلاق. فالمسلم الحق لا يمل العمل ولا يمل الطاعة بأي حال من الأحوال.

 

 

أسباب ضعف الفتور

 

أيها الأحباب هكذا كان السلف في علو همتهم واستمرار طاعتهم، فلماذا يصاب المرء بداء الفتور؟ إن من أهم أسباب الفتور هي:

 

السبب الأوّل : ضعف الإيمان :

لذلك لا بد لنا من أن نجدد إيماننا لأن ضعف الإيمان من لوازمه الفتور، محال أن تتذوق طعم الإيمان وحلاوة الإيمان، وأن يضيء القرآن قلبك، محال بعد هذا أن تتخلى عن لوازم الإيمان ألا وهي الطاعة، فمن ذاق عرف ومن عرف غرف، فضعف الإيمان في القلب أحد أخطر أسباب الفتور، والتراخي، فإن من ثمرة الإيمان أن يهدي صاحبه يقول تعالى: (ومن يُؤمن بالله يهد قلبه) التغابن 11. فإذا هدى الله قلب عبد استقامت جوارحه، لأن القلب هو الملك والأعصاء جنوده فإذا استقام الملك وصلح، استقامت الجنود وصلحت، وهذا مصداق لقول الله تعالى (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم) الشعراء  88.89. مصداقا لقول الرسول الأكرم صلَّ الله عليه وسلّم: (ألا وإن في الجسد مُضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب).  فيامن ابتُليت بداء الفتور تدارك نفسك وراقب قلبك وعالج نفسك فلعل إيمانك يحتاج إلى تجديد، ويحتاج إلى تقوية، فتش عن حال قلبك وعن مستوى إيمانه قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: "اطلب قلبك في ثلاثة مواطن؛ عند سماع القرآن، وفي مجالس الذكر ـ أي العلم ـ وفي أوقات الخلوة، فإن لم تجد قلبك في هذه المواطن فسل الله أن يمن عليك بقلب فإنه لا قلب لك". فضعف الإيمان هو السبب الأول لمرض التكاسل والفتور عن الطاعة.

 

السبب الثاني : الغلو والتشدد في الدين :

وذلك بالإنهماك في الطاعات بغير اعتدال ولا توسط، وحرمان البدن حقه من الراحة، والطيبات، فإن هذا من شأنه أن يؤدي إلى الضعف والسأم والملل، وبالتالي: الإنقطاع عن العمل والتقصير عن الطاعة وانتقال المرء من الإفراط إلى التفريط ومن التشدد إلى التسيب وهذا امر طبيعي، إذ الإنسان طاقة محدودة فإذا تجاوزها انتابه الملل والفتور واعتراه الكسل والإنقطاع ولهذا كان حرص النبي صلى الله عليه وسلم على التحذير الشديد والنهي الصريح عن التشدد والغلو في الدين إذ يقول صلَّ الله عليه وسلّم: "إياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من قبلكم بالغلو في الدين" ويقول: "هلك المتنطعون". قالها ثلاثا يعني يعني المتجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم. ويقول صلَّ الله عليه وسلّم: "لا تُشددوا على أنفسكم، فيُشدّد عليكم، فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم ..." وقوله  صلَّ الله عليه وسلّم: "إن الدين يسر، ولن يُشاد الدين أحد إلا غلبه .." وعن انس رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزاواج النبي  صلَّ الله عليه وسلّم ـ يسألون عن عبادة النبي  صلَّ الله عليه وسلّم في السِّر، فلمَّا أخبروا كأنهم تقالّوها، وقالوا: أين نحن من النبي صلَّ الله عليه وسلّم وقد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ؟ قال أحدهم أما أنا فأصلي الليل ابدا، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر ولا اُفطر، وقال الثالث وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله  صلَّ الله عليه وسلّم إليهم فقال: "أنتم الذين قُلتم كذا، وكذا؟ أما والله إني لآخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني"

 

 السبب الثالث : الإستهانة بصغائر الذنوب :

ومن أسباب الفتور إرخاء العنان للنفس، وذلك يؤدي حتما إلى الفتور والغفلة، وصدق الله تعالى إذ يقول: ( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم وعفو عن كثير ) الشورى 30. فينبغي للمسلم أن لا يستهين بصغائر الذنوب، وليعلم أنه لا صغيرة مع الإصرار كما إنه لا كبيرة مع الإستغفار، يقول  صلَّ الله عليه وسلّم: "إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه" رواه أحمد والطبراني من حديث سهل بن سعد.

أخوة الأحبة: كل شيئ نفعله مسطر علينا في كتاب عند ربي لا يضل ربي ولا ينسى: ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) الزلزلة 7 ـ 8.

لذلك لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار، لكن الصغيرة سميت صغيرة لأن تلافيها سهل جداً بكلمة أستغفر الله. فاتقوا الله عباد الله واعلموا ان للطاعة كما يقول إبن عباس: "إن للطاعة نوراً في الوجه، ونوراً في القلب، ونوراً في البدن، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للمعصية سواداً في الوجه، وظلمة في القلب والقبر، ووهناً في البدن، وضيقاً في الرزق، وبغضاً في قلوب الخلق". ويقول تعالى: (إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا ) مريم 96.  أي وداً في قلوب الخلق، التي تدل على محبة الله للمطيع، أودعها في قلوب الخلق.

 

 السبب الرابع : التخلي عن العمل لدين الله :

فتجد الأخ  مهتم بمصالحه الخاصة، وبكسب المال، والتمتع بالمباحات، منهمكك في الملذات، وفي الجانب الآخر نجده يتخلى عن العمل لدين الله عز وجل، فالعمل للدين والدعوة إلى الله  يدفع الإنسان دفعاً للطاعة، ويثبت الله عز وجل من يحمل همّ الدين بقلوبهم على طاعة ربهم،  فتجد المؤمن الحق يحمل همّ هذا الدين، في كل شؤونه وعلى جميع أحواله. يذكر بالله تارة، يتململ من واقع المسلمين تارة أخرى، يُذكر المؤمنين من زملاء العمل، من جيرانه، من أقربائه، من ذويه بالله عز وجل، يحضر مجالس العلم، حريص على إسعاد الفقراء والمساكين، قضية الدين تملأ قلبه، تحرك عليه وجدانه، تشغل باله، تشغل عقله وجوارحه في آناء الليل وأطراف النهار. يقول صلَّ الله عليه وسلّم: ((من أصبح وأكبر همه الآخرة جعل الله غناه في قلبه، وجمع عليه شمله وأتته الدنيا وهي راغمة)). أخرجه ابن ماجة عن أنس بن مالك.

 

السبب الخامس : مفارقة جماعة المسلمين وإيثاره العزلة والتفرد :

فالطريق طويل، وتحتاج إلى زاد، وتحتاج في مختلف مراحلها إلى رفقاء وإخوة في الله يسيرون معه، ويُعينونه على تخطي عقبات الحياة وصعوبة الطريق، فإن ذلك يجعل من المسلم متجدد النشاط عالي الهمة قوي الإرادة، صادق العزيمة. كما يقول عمر رضي الله عنه: "عليك بإخوان الصدق فعش في أكنافهم فإنهم عدّة لك في البلاء وظينة لك في الرخاء". أما إذا شذ عن الجماعة وفارقها واعتزل المساجد وأحجم عن حضور الجمع والجماعات وحلقات العلم، فإنه سيفقد من يُجدد نشاطه، ويُقوي إرادته، ويُذكره بربه، فيسأم ويمل، وبالتالي يتراخى ويفتر وينقطع عن العمل. يقول تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعا  ولا تفرقوا ...) ويقول سبحانه: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ...)  ويقول صلَّ الله عليه وسلّم: (عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الإثنين ابعد، /ن أراد بحبوحة الجنة فليلوم الجماعة"  ويقول صلَّ الله عليه وسلّم: "الذي يُخالط الناس ويصبر على آذاهم خير من الذي لا يُخالط الناس ولا يصبر على آذاهم"  وقد أدرك سلف هذه الأمة أهمية ذلك، فلزموا الجماعة، ورغبوا فيها، يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "كدر الجماعة خير من صفو الفرد".

 

 

 


faheemfb@gmail.com   فهيم أبوخـطـوة ،، البريد الإلكتروني