Checkout

خطب الجمـعة

faheemfb@gmail.com

154

      

 

     
 

     


بسم الله الرحمن الرحيم

الإستقامة

 

كتبها : الشيخ   

ترجمها إلى الإنجليزية : د . فهيم بوخطوة

 

 02صفر   1432

07  يناير 2011

 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ .إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ .اهدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ . صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ .}

   

أما بعد: موضوعنا أيها الأحبة عن الإستقامة التي هي السير والثبات على المنهج القويم ، والطريق المستقيم ، الذي هو دين الله سبحانه وتعالى ، يقول سبحانه في مُحكم التنزيل: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} الأنعام 161. فطلب الإستقامة دعاء يدعو المسلم ربه به كل يوم في أكثر من سبعة عشرة مرة في سورة الفاتحة {اهدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}. و لقد ورد الأمر بالإستقامة في كتاب الله في أكثر من موضع وتكرر في أكثر من مكان. يقول سبحانه وتعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)}.

فأمر الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بالثبات والمداومة والإستمرار على الإستقامة لأن في ذلك أكبر العون على توفيق الله للعبد في دينه ودنياه ، فالإستقامة بها يتنزل نصر الله على عباده على مستوى الفرد وعلى مستوى الأمة .

فالمستقيمون هم الذين أنعم الله عليهم، فاتبعوا أوامره  وذلك بفعل الطاعات كلها الظاهرة والباطنة، واجتنبوا نواهيه بترك المنهيات كلها الظاهرة والباطنة. من غير غلول ولا تقصير. ولا إفراط ولا تفريط. فالمؤمن مطالب بالإستقامة الدائمة المستمرة فإذا انتابه تقصير في فعل المأمور، أو ترك المحظور وفي ذلك ما يُعتبرخروجا عن الإستقامة يرشدنا الشرع الكريم إلى ما يعيدنا إلى طريق الإستقامة يقول سبحانه: {فاستقيموا إليه واستغفروه} فإذا حدث التقصير عن الإستقامة لضعف بشري يُجبر هذا التقصير بالإستغفار المُفضي للتوبة والرجوع للإستقامة. وفي هذا المعنى يُشير النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "اتق الله حيثما كنت ، وأتبع السيئة الحسنة تمحها"، وبقوله في حديث آخر :"سددوا وقاربوا" فالسداد هو الوصول إلى حقيقة الإستقامة، بأن يلتزم المؤمن شرع الله في الأقوال والأفعال والمقاصد والغايات، وذلك إنما يكون كما قال الإمام الفضيل بن عياض :"إن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصا وكان صوابا." أي أن يكون خالصا أن يكون لله وأن يكون صوابا أن يكون على السنة. وقوله "وقاربوا" أي اجتهدوا في الوصول إلى السداد وهي الإستقامة، فإن لم يُقدر عليها فلا أقل من المقاربة. فإذا عجز المسلم عن الوصول بنفسه في تربيتها واستقامتها إلى مرتبة الكمال فلا أقل من يُلامس مرتبة الجمال وهو الحد الأدنى الذي ينبغي أن يكون عليه حال العبد المؤمن. فالمؤمن لا يُفارق هاتين المنزلتين ولا ينزل عن هاتين المرتبتين. فليحرص دائما على الوصول إلى أعلاهما وهو الإجتهاد في تحقيق الإستقامة أو القرب منها "سددوا وقاربوا" . فالإستقامة تقوم على الإقتصاد والتوسط في الطاعة قولا وعملا وسلوكا وهذا يعني : السلوك الوسط بين الإفراط وهو الجور على النفس ولو في الطاعة، و التفريط وهو التقصير والتضييع . ولبعض أسلافنا كلام جميل في هذا المقام يقولون فيه: "ما أمر الله تعالى بأمر إلا و للشيطان فيه نزعتان: إما إلى تفريط، و إما إلى مجاوزة" وهي الإفراط. وكلا طرفي المعادلة في الشريعة مذموم.  فالمسلم الحق معتصم دائما بالسنة النبوية المُطهرة في كل قول وعمل وسلوك فهو خارج من دائرتي الإفراط والتفريط داخل في الإعتدال والوسطية. فالنفس المؤمنة معرضة لما يتعرض له الإيمان من الزيادة والنقصان، فإن الإيمان يزيد وينقص كما يقول جمهور المحدثين والفقهاء فالإستقامة ككل عمل إيماني، يعلوا فيصل الأوج والذروة أحيانا. اعتقادا وممارسة، وينحدر متضائلا تارة أخرى، والفائز من لا يُغالي عند التعالي، ولا يُسرف عند الهبوط، بأن يلزم هدي السنة النبوية الشريفة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (كل عمل شّرة، ولكل شّرة فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى) مسند الإمام أحمد وصححه أحمد محمد شاكر.

والإستقامة تعني الثبات على الحق ولذلك كان من الدعاء المأثور الذي ورد في صحيح البخاري: (اللهم إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا أو نُفتن). فسالك طريق الإستقامة ثابت على الإيمان وعلى الحق وعلى المُضي في سبيل الله إلى النهاية. ثبات على العمل الصالح واستمرار فيه ولعل كلمة المعصوم صلوات الله وسلامه عليه فيما رواه البخاري ومسلم بسنديهما عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل"، أقول لعل هذا الحديث الشريف يؤكد هذا المعنى ويقويه، إذ الأصل أن يثبت الإنسان على العمل الصالح الذي يُعبر عن إيمانه وإسلامه، ويثبت عليه ويستمر فيه، لأن هذه المداومة أحب الأعمال إلى الله تعالى مهما كان العمل قليلا. ففضيلة المداومة على الإمتثال والخضوع لآوامر الله تعالى في المنشط والمكره من القضايا الأساسية في التصور الإسلامي، وقد قام النبي صلى الله عليه وسلم ببيان ذلك لأمته بعد أن أمره ربه بالإستقامة عندما قال له: {فاستقم كما أُمرت} فروي عنه أنه قال: "شيبتني هود وأخواتها". وعندما سُئل: ما الذي شيبك منها ؟ قال قوله تعالى: {فاستقم كما أُمرت} وقد قام صلى الله عليه وسلم بإسداء النصح لأمَّته بلزوم الإستقامة في جوابه لمن سأله عن قول فصل يصلح به جماع أمره حيث جاء في الصحيح أن سُفيان بن عبدالله رضي الله عنه قال: "يارسول قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك قال: قل آمنت بالله ثم استقم". وروى إبن ماجه بسنده عن ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "استقيموا و لن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة.." وروى الإمام أحمد بسنده عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قد أفلح من أخلص قلبه للإيمان وجعل قلبه سليما ولسانه صادقا ونفسه مطمئنة وخليقته مستقيمة .." فهذ الأحاديث الشريفة كلها تُطالب بالإستقامة على الدين والثبات على منهجه ونظامه، وتوضح أن الإستقامة في حدود طاقة الإنسان، وأن بلوغ أعلى الدرجات فيها قد لا تتيسر إلا لقلة من الناس، " ... و لن تحصوا" أي قاربوا كمال الإستقامة ما استطعتم. وإذا علم الله من عبد صدق النية فإنه حتما سيزوده الإستقامة ويُعينه عليها،  يقول تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سُبُلنا و إن الله لمع المحسنين} العنكبوت. فالإستقامة فالاستقامة هي المسار الصحيح للإنسان في حياته العملية فيما يُرضي الله عنه تعبديّاً، وبما يُسْعِد مجتمعه فكريّاً أو ماديّاً أو جهداً عمليّاً. وأعضاء مجتمع الاستقامة هم أهل الله وخلفاؤه في الأرض، تحوطهم العناية الربَّانية في الدنيا والآخرة، وتحفُّ بهم ملائكة الرحمة بالبشائر والاستغفار، والرعاية الكريمة؛ قلوبهم واثقة بالله، مطمئنة به، لا تعرف الخوف إلا منه عزَّ وجل. ماضون  على هذا النهج من غير تبديل ولا تحريف يقول سبحانه و تعالى: {فلذلك فادع واستقم كما أمرت ، و لا تتبع أهوائهم} الشورى 15.* و من هؤلاء الثابتون على الإستقامة على طول الطريق الصحابي الجليل عبدالله بن حُذافة السهمي (أخرج البيهقي و ابن عساكر عن أبي رافع قال: وجّه عمر بن الخطاب رضي الله عنه جيشا إلى الروم وفيهم رجل يُقال له عبدالله بن حُذافة السهمي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسره الروم فذهبوا به إلى ملكهم فقالوا له: إن هذا من أصحاب محمد، فقال له الطاغية: هل لك أن تنصّر وأشركك في ملكي وسُلطاني؟ فقال عبدالله: لو أعطيتني ماتملك وجميع ما ملكته العرب على أن أرجع عن دين محمد صلى الله عليه وسلم ما فعلت.  قال إذا أقتلك، قال: أنت وذاك،  فأمر به فصلب وقال للرماة: أرموه قريبا من يديه، قريبا من رجليه ، وهو يعرض عليه، وهو يأبى. ثم أمر به فأنزل، ثم دعا بقدر فصب فيها ماء حتى احترقت، ثم دعا بأسيرين من المسلمين فأمر بأحدهما فأُلقي فيها، وهو يعرض عليه النصرانية وهو يأبى ثم أمر به أن يُلقى فيها، فلما ذُهب به بكى، فقيل له: إنه بكى، فظن أنه جزع فقال: ردوه فعرض عليه النصرانية فأبى. فقال ما أبكاك إذا؟ [وانظروا إلى هذا الرد من رجل عظيم تزول الجبال من تحت قدميه ولا يزول] قال: أبكاني أني قلت في نفسي: تُلقى الساعة في هذه القدر فتذهب، فكنت أشتهي أن يكون لي بعدد كل شعرة في جسدي نفس تُلقى في الله.  قال له الطاغية: هل لك أن تُقبل راسي وأُخلّي عنك؟ قال له عبدالله: وعن جميع أسارى المسلمين. قال عبدالله: فقلت في نفسي: عدو من أعداء الله، أُقبل رأسه يخلي عني وعن جميع أسارى المسلمين! لا أبالي. فدنا منه وقبل رأسه فدفع إليه الأسارى، فقدم بهم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأخبره بخبره. فقال عمر: حُق على كل مسلم أن يُقبل رأس عبدالله بن حُذافة، وأنا أبدأ، فقام عمر فقبل رأسه. هذا مثال عظيم  ونموذج لثبات الصحابة رضوان الله عليهم ولو شئنا أن نذكر المزيد لا يتسع بنا المجال فحسبنا هذا وما هي إلا ذكرى نذكر بها أنفسنا لنثبت على الطاعة والإستقامة. يقول الله تعالى (يُثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد) إنها الإستقامة و إنه الثبات على هذا الدين وليس هذا الموقف بمستغرب عن هذا الصحابي الجليل وكيف لا وقد تتلمذ على يد معلم الثبات والإستقامة محمد صلى عليه وسلم الذي كان المثل الأعلى في ذلك كله .  

 

وفي سورة فصلت يقول سبحانه: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا و أبشروا بالجنة التي كنتم توعدون. نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة و لكم فيها ما تشتهي أنفسكم و لكم فيها ما تدعون نُزلا من غفور رحيم} وفي سورة الأحقاف يأتي قوله تعالى: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم و لا هم يحزنون. أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون} وفي سورة الجن يقول تعالى: {وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا}. فالمسلم الحق السالك طريق الإستقامة يعيش لله وبالله ومع الله حياته كلها جد واجتهاد في طاعة الله، لأنه يعلم أن الراحة الحقيقية هي: راحة الآخرة لا راحة الدنيا، ولذلك لما قيل للإمام أحمد: ( متى يجد العبد طعم الراحة)؟ قال: ( عند أول قدم يضعها في الجنة). فهؤلاء المستقيمين الذين أطاعوا الله فرضى عنهم ورضوا عنه لهم يوم القيامة. كما جاء في هذه الآيات أنهم: تتنزل عليهم اللائكة بالبشارات، وتثبتهم (ألا تخافوا)، وتطمئنهم: (ولا تحزنوا)، وتُفرحهم: (وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون)، وتُصارحهم: (نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة)، وتكشف لهم النعم: (لكم فيها ما تشتهي أنفسكم)، وتبين لهم سعة النعيم : (ولكم فيها ما تدّعون)، وتُعرفهم فضل الله عليهم ( نزلا من غفور رحيم)

 اللهم اجعلنا من المستقيمن الثابتين على دينك العاملين بشرعك المؤتمرين بأمرك، وارزقنا اللهم هذ البشارات يارب العالمين آمين .

 


faheemfb@gmail.com   فهيم أبوخـطـوة ،، البريد الإلكتروني