خطب الجمـعة |
![]() |
|
201 |
بسم الله الرحمن الرحيم
الهجرة النَّبَوِيَّة 2
كتبها : الصَّافي جعفر الصَّافي
ترجمها إلى الإنجليزية : د . فهيم بوخطوة
07 صفر 1439 هـ
27 أكتوبر 2017 م
أحبتي في الله ،،،
قال تعالى: {
لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَـٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚوَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } 9- 59:8.الحمد لله الواحد الحد الفرد الصمد، قيُّوم السموات والأرض، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، بلَّغ الرسالة وأدَّى الأمانة، ونصح الأُمَّة وكشف الغُمَّة، فجزاه الله خير ما يجازي نبياً عن أمَّته. اللهم أرزقنا العزيمة في الرُّشد والثَّبات على الأمر، واربط على قلوبنا برباط من عندك، إنَّك سميع مُجيب الدُّعاء.
أحبتي الأشقاء،،
في جمعتنا الماضية بدأنا الحديث عن الهدرة النّبوية. هذا الحدث الكبير الضخم والذي كان تفعيلا بين مرحلتين من مراحل مسيرة الإسلام والمسلمين: مرحلة الدّعوة في مكّة، والتي إستمرَّت ثلاثة عشر عاماً. ومرحلة قيام الدولة المسلمة في المدينة. كانت إيذانا بإنطلاق الإسلام في أصقاع الدنيا. وتحقق بأنّه دين عالمي إتَّخذ مكّة منصَّة للإنطلاق دعم أرجاء الدنيا. ونحن الآن في أوروبا، وفي إيلندا نجني ثمرات هذه العالمية، ونقيم صلاة الجمعة في قلب العاصمة الإيرلندية في أمان وسكون.
تَرَكْنا رَكْبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غادر الغار وضرب في الصحراء، تحفُّه السكينة وتتنزَّل عليه البشارات {
إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } 9:40نُتابع الرَّكب الميمون وهو على مشارف المدينة وقد إستعدَّت لإستقباله ليتحقق الدعم الإلهي {
بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا}.خرجت المدينة، المسلم وغير المسلم. وعلى مشارف المدينة تجمَّع المسملون من الأنصار والمهاجرين، ويردِّد شبابهم وشابّاتهم:
طلع الفجر علينـا +++ من ثنيّات الوداع
وجب الشكر علينا +++ ما دعى لله داع
أيُّها المبعوث فينــــا
+++ جئت بالأمر المطاعجئت شرَّفت المدينة +++ مرحبا يا خير داع
وقفات:
1) الإستقبال كال حاشداً ، وكان طوعياً. إستقبلوا طوعاً وإختياراً. ولذلك يمكننا أن نقرر أنّه كان إستفتاء شعبيا كاسحا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يُرِقْ قطرة دم.
2) كان إستفتاء شعبيا على ثلاثة أشياء:
أ - منحوه ححق المواطنة، هو وإخوانه من المهاجرين ، وجعلوهم أصحاب حق في المدينة وكراتها وسوقها وسياساتها.
ب - بايعوه رئيسا للدولة بإجماع قرين غير تنازع.
جـ - بايعوه رسولا تمَّمَ الله به الرسالات.
تبدَّلت صورة أهل مكّة القاتمة والتي خرج منها مطروداً كما قال: {
إن أعلم أنك أحبُّ بلاد الله إلى الله، ولولا أنَّ قومك أخرجوني لما خرجت}.وهنا نلمس وعد الله سبحانه وتعالى وبشاراته
دخل المدينة على ناقته القصواء. وهي تتهاوي له في أزِقَّة المدينة. والأنصار في كل حي يعترضون سبيلها ويدعون رسول الله أن ينزل عندهم. فيتبسَّم عليه السلام في وجوههم ويقول لهم: {دعوا النَّاقة فإنَّها مأمورة}. فيفسحون لها ويركضون خلفها ينتظرون قرارها بأين ستنزل بأمر من الله. لقد كانت النَّاقة صاحبة القرار يومئذن إلى أن جاءت في موقع المسجد الحالي. بركت والقوم ينتظرون. ثم هبَّت ودارت بعنقها الطويل وعينيها الجاحضتين ثلاث مرَّات، ثم عادت فبركت في نفس المكان. ولكنها هذه المرَّة رزمت ووضعت جرانها – دلالة على الإستقرار، وهنا ترجَّل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأقبل على النّاس يحييهم. فأسرع الصحابي أبو أيُّوب الأنصاري إلى أخذ رُحل رسول الله ودخل به إلى داره من غير أن يستشير أحداً (رهفا من هِمَّته). وعندما إنتهى رسول الله من التحايا للنّاس سأل أين رحلي؟ فقالوا له قد ذهب به أيُّوب فقال عليه السَّلام: {المرء مع رحله}، واستقر بالمدينة.
ونواصل حديثنا عن الهجرة. بعد أن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة المنوَّرة لتبدأ مسيرة دولة الإسلام. يروي أهل السيرة بأنّه عليه السلام بدأ بقرارات حاسمة في نكوين الدولة:
1) وجّه ببناء المسجد. وكانت هذه الدراية
2) آخى بين القريشيين (المهاجرين) وأنوافهم من الأنصار. مؤاخاةً كانوا يتوارثون فيها قبل نزول آية الميراث ليضمن وحدة نسيج هذه الدولة النّاشئة، وصمودها أمام التحدِّيات (نموذج أخاء سعيد بن الربيع وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما).
3) إنشاء دستور المدينة ليضمن لللأقلِّيات من يهود ومشركين حقهم. مجتمع المدينة كان صياغة قرآنية صرفة تولَّى قيادته وأصبح قدوته رسول الله صلى الله عليه وسلم. وجمع الأنصار والمهاجرين في إخاء لم يسبق في تاريخ البشرية ولا في طبائع الأديان.
للدلالة على ذلك قد نتأمَّل في الآيات التي بدأنا بها خطبتنا:
{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَـٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚوَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 9-59:8
هذه الآية تتناول فئتين، هما مكوِّنات مجتمع المدينة:
1. المهاجرين: وهؤلاء وصفهم القرآن بأنَّهم: أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ. ومعنى ذلك أنهم كانوا أصحاب ثروات، فامتلكوا المال والدُّور. (ولم يكونوا اعا خالين ) وكانوا مالكين للقدرات الإقتصادية والمهنية، لكنهم تركوا كل ذلك ورفضوا الظلم وهاجروا بلدهم يطلبون الحرِّية وعبادة الله، ووصفهم القرآن: أُولَـٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ. والصدق هو أعلى مواصفات الخير عند الله.
2. الأنصار: وهؤلاء تتولاهم الأية في مواصفات عجيبة فيهم:
أ ) تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ: توخطوا بساط الإيمان وانقلبت دارهم إلى دار الإيمان (وإسلامهم جغرافي).
ب) يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ: وهذا وصف إستنثنائي لأنَّ المهاجرين هم بلغة اليوم "نازحون". والنَّازحون تستضيفهم الدول على كره، وتُسكنهم أطراف البلد، وتأويهم طمعا في دعم الأمم المتحدة. ولهذا يذهب 70% من هذا الدعم للمصاريف الإدارية ويذهب القليل لهؤلاء النَّازحين. أما الأنصار فكان موقفهم بشهادة الله قوله: {يُحِبُّونَ}. والحُب في هذه الحالة ظاهرة إستثنائية وغير مألوفة في الطِّباع البشرية. إنّها الصِّياغة الجديدة والإنسان الجديد، وهدي القرآن وقُدوة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم تمضي المواصفات:
جـ) وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا: فالقرآن قدَّم المهاجرين عليهم فرضوا بذلك ولم يجدوا في أنفسهم حرجاً.
د ) وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ: وهنا تبلغ المواصفات ذروتها في هذا التوصيف العجيب الغريب. (الإيثار على النفس). ثم تختم الآيات في تقييم جماعة الأنصار: وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وصفهم بأنهم تجاوزوا "شُحَّ النَّفس" والذي هو صفة أيلة في الأديان، ووصفهم بالفلاح.
وتمضي الآيات لتعلمنا جميعا كيف نتعامل مع هذه الصفوة من عباد الله عندما نقرأ سيرهم وأحوالهم، وهم بشرٌ غير معصومون، ويزيدنا القرآن بقوله تعالى:
{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} 59:10