Checkout

خطب الجمـعة

faheemfb@gmail.com

195

      

 

     
 

     


بسم الله الرحمن الرحيم

اللسان

 

كتبها: الشيخ : صبحي الكتّاف

ترجمها إلى الإنجليزية : د . فهيم بوخطوة

 

12 / ذي القعدة / 1438 هـ

04 / أغسطس / 2017 م

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين ... وبعد:

أيها المسلمون:  نِعم الله تعالى على الإنسان لا تُعَد ولا تُحصى كثرة، ومن نِعم الله تعالى عليه أن جعل له لسانا يبيِّن  به مُراده، ويعرب به عن حاجته، ولذا امتنَّ الله جلَّ وعلا على الإنسان بأنه جعل له آلة البيان التي هي اللسان والشفتان، وذلك في قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ} 9- 90:8، أي لسانا ينطق به، فَيُعبر عما في ضميره، وَشَفَتَيْنِ يستعين بهما على الكلام وأكل الطعام. فاللسان هو آلة البيان الذي امتن الله به علينا كما قال تعالى ( خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)) 3- 55:4، وإن كانت اللغة والنطق ليستا مما اختص بهما الإنسان دون سائر المخلوقات بل لكل لغته قال تعالى:{وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم} 17:44. {وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون، فتبسم ضاحكا من قولها} 19- 27:17.

أيها المسلمون  ومع أن اللسان من نعم الله العظيمة ولطائف صنعه الغريبة إلا أنه في ذات الوقت سلاح ذو حدين: إن استخدم في طاعة الله: كقراءة القرآن، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونصر المظلوم كان هذا هو المطلوب من كل مسلم، وكان هذا شكراً لله على هذه النعمة وإن استخدم في طاعة الشيطان، وتفريق جماعة المسلمين، والكذب وقول الزور، والغيبة والنميمة، وانتهاك أعراض المسلمين وغير ذلك مما حرمه الله ورسوله. كان هذا هو الهلاك والخسران وكان كفراناً لهذه النعمة العظيمة.

أيها المسلمون: اللسان صغير في حجمه  عظيم في طاعته وجرمه فبه يستبين الكفر والإيمان وما من موجود أو معدوم خالق أو مخلوق متخيل أو معلوم مظنون أو موهوم إلاَّ واللِّسان يتناوله ويتعرض له بإثبات أو نفي. فإن كل ما يتناوله العلم يعرب عنه اللسان إما بحق أو بباطل ولا شيء إلا والعلم متناول له. وهذه خاصية لا توجد في سائر الأعضاء، فالعين مثلا لا تصل إلى غير الألوان والصور، والأذن لا تصل إلى غير الأصوات، واليد لا تصل إلى غير الأجسام وكذا سائر الأعضاء، وأما اللسان فهو رحب الميدان ليس له مرد ولا لمجالة منتهى وحد، له في الخير مجال رحب وله في الشر ذيل سحب، هو أعصى الأعضاء على الإنسان أن يضبطه، لأنه لا تعب في إطلاقه ولا مؤنة في تحريكه. ومع ذلك قد تساهل أكثر الناس في الاحتراز عن آفاته وغوائله والحذر من مصائده وحبائله حتى صار أعظم آلات الشيطان في استغواء الإنسان. ولذا تتابعت نصوص الكتاب والسنة وأقوال السلف الصالح في التحذير من آفاته، لأن من أطلق عذبة اللسان وأهمله مرخى العنان سلك به الشيطان في كل ميدان وساقه إلى شفا جرف هار إلى أن يضطره إلى البوار وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: {وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم ...}. رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه. فلا ينجو من شر اللسان إلا من قيده بلجام الشرع فلا يطلقه إلا فيما ينفعه في الدنيا والآخرة ويكفه عن كل ما تخشى غائلته في عاجله وآجله،

احفظ لسانك أيها الإنســـان   ..... لا يلدغنك إنـــــــــــــــــــــَّــــــــــه ثعبـــــان

كم في المقابر من قتيل لسانه   ..... كانت تهاب لقاءه الشجعان

وقال الآخر:

يموت الفتى من عثرة بلسانه    ..... وليس يموت المرءُ من عثرة الرّجلِ

فعثرته بالقول تُذْهِبُ رأســـــه    ..... وعثرته بالرجل تشف على مهل

 

أيها الناس، آفات اللسان كثيرة جدا من الغيبة والنميمة والقول على الله بلا علم والكذب والقذف والبذاءة بقول الفحش والجدل والخصومة والمن والسَّب والشتم والسُّخرية والاستهزاء والتنابز بالألقاب والغناء والشعر المحرم وإفشاء السر وترك الأمر بالمعروف وترك النهي عن المنكر وغير ذلك كثير. إلا أن كل تلك الآفات ترجع إلى أمرين اثنين: أولهما آفة الكلام بالباطل، وثانيهما آفة السكوت عن الحق. وسبيل النجاة من كلا الآفتين هو لزوم الصمت وقول الحق والبعد عن كثرة الكلام وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: {من صمت نجا ...}.رواه أحمد والترمذي.

أيها المسلمون: أخبرنا ربنا في كتابه أن كلماتنا معدودة علينا فقال تعالى { ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد}50:18. فكل ما يتكلم به الإنسان من خير أو شر مكتوب عليه، وقد جاء عند الترمذي بسند فيه ضعف: كل كلام ابن آدم عليه لا له إلا أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو ذكر الله ...، ولذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: والله الذي لا إله إلا هو ما شيء أحوج إلى طول السجن من اللسان، كف اللسان يا عباد الله وعدم النطق به إلا في الخير دليل على الإيمان لقوله صلى الله عليه وسلم: {من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت}. رواه لبخاري ومسلم. والكلمة الواحدة قد تكون بابا عظيما إلى الجنة وقد تكون بابا عظيما إلى النار. عن بلال بن الحارث المزني رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله تعالى له بها رضوانه إلى يوم يلقاه وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه} رواه مالك والترمذي، وعند البخاري ومسلم: {إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب} وفي لفظ: {إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسا يهوي بها سبعين خريفا}. كثرة الكلام ثرثرة، والثرثرة مذمومة شرعا حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: {أبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون} رواه الترمذي. وربنا جلَّ في علاه أخبرنا أن حديث الناس لا خير فيه إلا في مواطن فقال {... لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} 4:114. إذا كثر الكلام في غير مرضاة الله تعالى قسى القلب وكسلت الجوارح عن الطاعة عند الترمذي والبيهقي في الشعب مرفوعا: {لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي}. كما أن الصمت منجاة في الدنيا والآخرة. إمساك اللسان عن كثرة الكلام يجمع للإنسان خيري الدنيا والآخرة، لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: {رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد . قال له: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ فقال معاذ: بلى يا نبي الله، فأخذ بلسانه فقال: كف عليك هذا. فقال: يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ ! وهل يكبُّ الناس على وجوههم في النَّار أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم}. أخوف شيء خافه النبي صلى الله عليه وسلم على الإنسان لسانه. عن سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله حدثني بأمر أعتصم به قال: {قل ربي الله ثم استقم}  قال قلت يا رسول الله ما أخوف ما تخاف علي فأخذ بلسان نفسه ثم قال: {هذا} رواه الترمذي. وأخبر عليه الصلاة والسلام عن خطورة اللسان فقال: {ليس شيء من الجسد إلا و هو يشكو ذرب اللسان ..} رواه البيهقي وصححه الألباني. وذرب اللسان حدته وبذاءته. قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: (اعلم أنه ينبغي لكل مكلَّف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام، إلا كلاماً تظهر المصلحة فيه، ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة، فالسُّنَّة الإمساك عنه؛ لأنه قد ينجز الكلام المباح إلى حرام، أو مكروه، بل هذا كثير أو غالب في العادة، والسلامة لا يعدلها شيء). وقد قال عليه الصلاة والسلام: {من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه}. عباد الله حركة اللسان تدل على ما في القلب، فالقلوب كالقدور تغلي بما فيها، وألسنتها مغارفها،  والمرء حين يتكلم، فإن لسانه يغترف مما في قلبه، حلو وحامض وعذب، وأجاج، وغير ذلك ويبين لك طعم قلبه اغتراف لسانه. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} 71- 33:70. أقول ما تسمعون .....

 

 

الخطبة الثانية

أيها المسلمون: في المثل السائر: إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب. وهذا حق، وتُروى هذه الحكمة عن داوود عليه السلام. ولما أدرك سلفنا الصالح خطورة اللسان وما يصدر عنه من كلام احترزوا منه أشد الاحتراز، حتى كان الواحد منهم يحاسب نفسه في قوله "يوم حار ويوم بارد".

ولقد رُؤيَ بعض الأكابر من أهل العلم في النوم فسئل عن حاله فقال: (أنا موقوف على كلمةٍ قلتها، قلت: ما أحوج الناس إلى غيث فقيل لي: وما يدريك أأنت أعلم بمصلحة عبادي مني).

وقال بعض الصحابة لجاريته يوماً: هاتي السفرة نعبث بها، ثم قال: أستغفر الله ما أتكلم بكلمة إلا وأنا أخطمها وأزمها إلا هذه الكلمة خرجت مني بغير خطام ولا زمام.

وقال ابن بريدة رأيت ابن عباس رضي الله عنهما آخذ بلسانه وهو يقول: ويحك قل خيراً تغنم أو اسكت عن سوءٍ تسلم وإلا فاعلم أنك ستندم. فقيل له يا ابن عباس لِمَ تقول هذا؟ قال: إنه بلغني أن الإنسان أراه قال: ليس على شيءٍ من جسده أشد حنقاً وغيظاً يوم القيامة منه على لسانه إلا من قال خيراً أو أملى به خيراً.

وقال يونس بن عبيد: ما رأيت أحداً لسانه منه على بال إلا رأيت ذلك في سائر عمله، ولا فسد منطق رجل قط إلا عرفت ذلك في سائر عمله.

وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ أَسْلَمَ أَنَّ عُمَرَ دَخَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَهُوَ يَجْبِذُ لِسَانَهُ فَقَالَ عُمَرُ: مَهْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إنَّ هَذَا أَوْرَدَنِي الْمَوَارِدَ.

وعن عمر رضي الله عنه قال: من كثر كلامه كثر سقطه.

وعن ابن مسعود قال: أنذركم فضول الكلام بحسب أحدكم ما بلغ حاجته.

وعن علي رضي الله عنه قال: اللسان قوام البدن فإذا استقام اللسان استقامت الجوارح، وإذا اضطرب اللسان لم تقم له جارحة.

وقال محمد ابن واسع  رحمه الله: حفظ اللسان أشد على الناس من حفظ الدينار والدرهم.

وأختم بهذا الحديث الصحيح الذي يدل على خطورة الكلمة على صاحبها، روى أبو داوود في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين فكان أحدهما يذنب والآخر مجتهد في العبادة فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب فيقول: أقصر فوجده يوما على ذنب فقال له: أقصر فقال: خلني وربي أبعثت علي رقيبا ؟ فقال: والله لا يغفر الله لك أو لا يدخلك الله الجنة فقبض أرواحهما فاجتمعا عند رب العالمين فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالما أو كنت على ما في يدي قادرا وقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار}. قال أبو هريرة: والذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وأخرته .

اللهم أعنا على حفظ ألسنتنا